من هنا وهناك

قصة حياة جيفارا || الجزء الأول

فى الرابع عشر من يونيو عام 1928 فى ولاية روزاريو فى الأرجنتين وضعت سيليا مولودها الأول .. إستقرت هى و زوجها جيفارا لينش على تسميته إرنيستو .. ذلك الطفل سيكون هو بطلنا .. إرنيستو جيفارا

ولد إرنيستو فى عائلة أرستقراطية من أب ذى أصول أيرلندية و أم من أصول إسبانية – باسكية تحديداً – و هو ما يعنى ميول إنفصالية إشتراكية بطبيعة الحال فأيرلندا و إقليم الباسك نادوا على مدار سنين طوال بالإنفصال و الإستقلال .. هنا حيث تربى إرنيستو .. هنا حيث سيتعلم تدريجياً معنى أن تكون الرؤوس متساوية ..

والده كان يعانى من أزمة مالية و جرب حظه مراراً فى مشاريع تجارية مختلفة بغية تجنيب أسرته الصغيرة مرارة الفقر و العوز .. ولاية روزاريو غنية و بها تجمع جيد لرجال المال و الأعمال و مستوى المعيشة بها مرتفع لذا كان التحدى أمام والده مضاعفاً .. و ذلك التحدى أجبر والده على التنقل مراراً بين أكثر من مدينة و أكثر من منزل .. حياة تميزت بعدم الإستقرار و السبب كان البحث الدائم عن الآمان المالى ..

زاد من تلك المعاناة أن إرنيستو الإبن الأكبر كان مصاباً بداء الربو ما جعل جو#روزاريو غير مناسباً له على الإطلاق ما أجبر الأسرة فى عام 1933 على الإنتقال إلى مدينة ألتا جراسيا و هى مدينة جبلية تتميز بنقاء الجو و بالهدوء التام .. كان إرنيستيتو الصغير محط إهتمام الأسرة بسبب مرضه و على الرغم من وجود إخوته الأربعة الأصغر منه إلا أنه كان المفضل بالتأكيد لأبويه خاصة والدته سيليا ..

إرنيستو كان يحاول تحدى مرضه دائماً ففى صغره كان زعيماً على أصدقائه ليس بقوته و لكن بشجاعته .. كان يتحداهم جميعاً أن يفعلوا مثله و كانوا لا يجرؤون .. كان يقفز من الشلالات .. كان يتسلق الأشجار .. كان يسرق الفاكهة .. كان يتحدى مسئولى مدرسته حتى أنه تبول ذات مرة على آلة بيانو تخص أحد جيرانه .. كان يفعل أى شيىء يثبت لمن حوله أنه يتفوق عليهم بلا تردد و بلا تفكير أحياناً .. إرنيستو كان مشاغباً و جريئاً بالتأكيد .. لكن الأهم أنه كان قائداً .. كان يرسم ملامح شخصيته بنفسه ..

الهدوء الذى عم المكان و الجو النقى كان له أكبر الأثر فى تشكيل شخصية بطلنا .. فالمرض و طول فترات الراحة جعلت جيفارا الصغير يقضى أغلب وقته فى القراءة فبسبب الربو تأخر فى بدأ دراسته حتى بلغ التاسعة و على الرغم من تأخره الدراسى إلا أن تحصيله المعرفى كان يوازى صبياً فى السابعة عشر على الأقل .. القراءة كان لها مفعول السحر بكل تأكيد ..

رائج :   الديكتاتورية .. نماذج من الطغاه (الجزء 3)

منزل جيفارا الأب كان ملتقى لكثير من الإسبان المنفيين فى حقبة الديكتاتور الإسبانى #فرانكو .. سياسيين و أدباء و مفكرين و موسيقيين و مؤرخين .. صفوة المجتمع الإسبانى كانت تجتمع فى منزل عائلة جيفارا ما جعل الصبى الصغير يستمع لألفاظ من نوعية الديموقراطية و العدالة الإجتماعية و الديكتاتورية و الفاشية ..

الفتى كان بالفعل ذكياً بل قل إن عيناه كانت تلمع من فرط ذكائه فتشبع عقله بتلك الأفكار و ساهم فى ترسيخها سياسة والدته فى إدارة المنزل فالخلفية الإشتراكية لدى الأسرة ساهمت فى مساواة الأطفال ببعضهم البعض فكانت تعامل أصدقاءه كما تعامله بالضبط .. لاحظ أنهم كانوا فى ريف الأرجنتين فى الثلاثينات و معظم أصدقائه إما أبناء مزارعين أو أبناء عمال مناجم أو أبناء سائقى تاكسى مثلاً فى حين أن أسرة إرنيستو كانت من الطبقة فوق المتوسطة ..

مع الوقت و مع زيادة التحصيل المعرفى لدى الشاب الصغير صار يسأل من حوله أسئلة من نوعية لماذا الناس غير متساوون ؟ لماذا هناك غنياً و هناك فقيراً ؟ لماذا كل هذا الظلم الإجتماعى ؟ لماذا هناك من يكسب 20 بيزو و هناك من يكسب 100 بيزو ؟ أليس هناك طريقة لتقريب تلك الفروق ؟ كان و على الرغم من نشأته المريحة و عدم إحتياجه إلا أنه كان يرى الوضع بعيون الفقراء و يشعر بهم أكثر من غيره حتى أنه فى مرة عاد من المدرسة مبكراً بدون معطفه و حين سألوه قال :

( أحد التلاميذ منعوه من دخول المدرسة بدون معطف و هو لا يملك واحداً فأعطيته معطفى و عدت .. لا بأس فأنا أملك اثنين على كل حال )

هنا وضع إرنيستيتو الصغير قدميه على طريق الإشتراكية .. هنا بدأ فعلياً كل شيىء ..

فى المرحلة الثانوية ظهرت ملامح شخصية إرنيستو أكثر و أكثر فعلى الرغم من قصر قامته و مرضه المزمن إلا أنه اشترك فى فريق الرجبى و هى رياضة تعتبر عنيفة إلا أنه صمم على الإشتراك و كان عليه أن يجتاز إختبار القفز على عصا أفقية و فى الوقت الذى كان منافسوه يقفزون مرة أو إثنتين كان إرنيستو يقفز ثلاثاً ..

تحدى إرنيستو مرضه و زملاؤه و كل ما أحاط به ليثبت للجميع أنه قادر على مجاراتهم .. أعطوه لقباً و قد أعجب به بشده  تشانشو أو الخنزير البرى .. كان هذا دليلاً على قوته .. إرنيستو حقيقة كان فريداً من نوعه ..

رائج :   دكتور مجدي يعقوب … هرم مصر الرابع

فى مارس 1947 إنتقلت العائلة إلى بوينوس أيريس و معها قدم إرنيستو أوراقه للإلتحاق بكلية الطب .. حلم القضاء على مرض الربو و أيضاً وفاة جدته بالحساسية شكل رغبته فى أن يصبح طبيباً ..

بخلاف الطب كان محباً للسفر و خلال إجازته الصيفية كان يزود دراجته بموتور صغير و يطوف بها ولايات الأرجنتين و مع تلك الرحلات رأى طالب الطب الشاب الأرجنتين التى لم يراها من قبل .. قرى و ضواحى الأرجنتين كانت تئن تحت وطأة الفقر و من جديد بدأت تراوده أفكار عدم المساواة و بدأ فى التفكير فى توفير العلاج لمشاكل هذا الوطن سواء الإقتصادية أو الإجتماعية ..

مع كل رحلة و مع كل قرية يمر عليها كان يتشبع أكثر و أكثر بالإشتراكية .. ربط بين حالة الفقراء و بين هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات الشعوب الفقيرة .. قراءاته لماركس و فلاديمير لينين و تروتسكى شكلت قناعته بأن الإمبريالية الإقتصادية الأمريكية و رأسماليتها المتوحشة هى السبب الرئيسى فى ما يعانيه العالم من مشكلات .. لماذا يسيطر أفراد قليلون على الثروة فى الوقت الذى يستطيع كل سكان العالم التعايش معاً فى سلام إجتماعى و أمان مالى بشكل متساوى أو شبه متساوى .. كانت الشيوعية أو الإشتراكية هى الحل من وجهة نظره ..

فى كتابه الذى أسماه يوميات دراجة نارية و الذى كتبه بخصوص رحلته بالدراجه مع صديقه ألبيرتو جرانادو اللذان ذهبا فيها إلى مستعمرة لمرضى الجذام فى سان بابلو فى البيرو ذكر أن الظلم الإجتماعى لم يكن فى الأرجنتين فقط بل إنه يمتد إلى كل أمريكا اللاتينية و أن أوجه الشبه بين الدول اللاتينية يكاد لا يصدق

و من هنا نشأت لديه فكرة الولايات المتحدة اللاتينية و أنه يجب على تلك الدول الإتحاد معاً و معالجة أوجه قصورهم الإقتصادى دون الإعتماد على أمريكا التى ساهمت فى إفقار مجتمعاتهم لا مساعدتهم .. من هنا بدأ تفكير إرنيستو جيفارا فى التحول من رصد الداء إلى ضرورة أخذ إجراء ما لعلاج هذا المرض .. كان يؤمن بوجوب فعل ذلك الإجراء .. هو فقط كان لا يعرف كيف ؟ و لا متى ؟ و لا من أين يبدأ ؟

بعد تخرج جيفارا من كلية الطب رسمياً إنطلق مرة أخرى فى رحلة لاتينية مكوكية شملت بوليفيا و بيرو و الإكوادور و بنما و كوستاريكا و نيكاراغوا و هندوراس و السلفادور و أخيراً جواتيمالا و تلك الدولة تحديداً هى من لفتت نظر جيفارا حيث كانت تبدأ رحلتها مع الديموقراطية تحت حكم الرئيس ياكوبو أربينز المنتخب ديموقراطياً و الذى وضع برنامجاً للإصلاح الزراعى يقضى بمصادرة الأراضى الزراعية غير المستغلة و توزيعها على فقراء المزارعين .. وجد جيفارا أن تلك دولة تسير حقاً فى طريق الإصلاح و المساواة فقرر البقاء فيها لفترة ..

رائج :   سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء الثامن

فى جواتيمالا تعرف جيفارا على هيلدا جاديا .. كانت مواطنة بيروفية تعمل بالإقتصاد و لها علاقات قوية مع حكومة أربينز و هو ما فتح مجالاً له للإلتقاء بمجموعة من المنفيين الكوبيين .. كوبا كانت ترزح تحت حكم يمينى ديكتاتورى هى الأخرى و كانت تلك العلاقة هى بذرة للتعاون المستقبلى بين جيفارا و فيديل كاسترو ..

تشيكسلوفاكيا كانت دولة شيوعية كما كانت جواتيمالا و من باب التعاون بينهم تم إرسال مجموعة من جنود المشاة يحملون معهم مجموعة مدافع سكود و بعض الأسلحة الخفيفة .. تطور رأته الولايات المتحدة تهديداً لها فاتخذته ذريعة و قامت بغزو جواتيمالا و إبعاد ياكوبو أربينز من الحكم و تثبيت الديكتاتور اليمينى كارلوس كاستييو أراماس مكانه و هو ما أهدر التجربة الديموقراطية فى ذلك البلد ..

هنا طغت الطبيعة الثورية على جيفارا و حاول الإنضمام إلى الميليشيات الموالية لأربينز لكن أربينز نفسه لجأ لسفارة المكسيك و طالب مؤيديه بالسفر إلى الخارج .. لجأ جيفارا لسفارة الأرجنتين و نال تصريح الخروج و سافر إلى المكسيك و هناك تزوج من هيلدا جاديا .. فى تلك الفترة نال إرنيستو جيفارا لقبه الأشهر #تشى و هو يعنى الرفيق أو الصديق و هو لفظ أرجنتينى دارج يتم تداوله بكثرة هناك ..

فشل التجربة الديموقراطية فى جواتيمالا جعل تشى يوقن بأنه لن تنال الدول اللاتينية حريتها إلا بإلغاء تبعيتها للولايات المتحدة و لن تستطيع ذلك إلا بشيىء واحد .. حمل السلاح .. الكفاح المسلح فكرة وجدت طريقها إلى عقل تشى جيفارا فى ذلك الوقت قبل أى وقت مضى .. الآن هو يعرف الإجراء الواجب إتخاذه .. بقى له أن يعرف متى يبدأ و من أين يبدأ ..

أسئلة لم يطل إنتظار إجابتها .. فهو الآن فى المكسيك .. حيث يوجد مجموعة كبيرة من المنفيين الكوبيين الذين فروا من جحيم فورجنسيا باتيستا ديكتاتور كوبا ..

مجرد وقت قبل أن يتعرف إلى راوول كاسترو الأخ الأصغر لقائد الثورة الكوبية فيديل كاسترو ..

مجرد وقت قبل أن يعرف أين يبدأ ؟

و بالتبعية يعرف متى يبدأ ؟

و لكن تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة