قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الأتوبيس

(الأتوبيس) لا يقف عند قرية (ميت شواشي) ..
قد تبدو لك هذه العبارة عادية، أو لا تثير انتباهك قط، فالمشكلة بالنسبة لك أمر تافه، لن يشغل تفكيرك لأكثر من الوقت اللازم لقراءة العبارة، ولكنها بالنسبة لسكان (ميت شواشي) كانت مشكلة عويصة، وما بعدها مشكلة ..

و(ميت شواشي) قرية مظلومة، سواء في الجغرافيا أو التاريخ، فلم يحدث أبدًا أن أنجبت أحد المشاهير، أو رجال السياسة أو الفنانين، وليس لها حتى عضو من أبنائها في مجلس الشعب ..

وطوال عمر و(ميت شواشي) لم تحدث فيها أية مواقع حربية، أو تاريخية، أو حتى يقع في حدودها حادث إجرامي خطير، يستحق التحدث عنها ..
ولهذا عاشت (ميت شواشي) دائمًا مجهولة منسية، لا يعرفها سوى سكانها، والقرى المحيطة بهم، حتى أن هيئة المساحة نسيت ذكر اسمها في خرائطها، فلم يعد حتى المسئولون يعلمون بوجودها ..

ونتيجة لهذا الوضع العجيب، لم يتوقف (الأتوبيس) أبدًا عند (ميت شواشي) ..
كانت له محطة في القرية التي قبلها، وأخرى أمام القرية التي تليها، دون أن تكون له محطة واحدة أمامها ..

ومنذ مولدهم، يتعلم أبناء (ميت شواشي) أن عليهم السير إلى أقرب قرية، لانتظار (الأتوبيس)، حتى يمكنهم الذهاب لعملهم في المركز، أو لمدارسهم في المدن ..

رائج :   كذا يفعل السادة || د : أحمد خالد توفيق

وذات يوم ثار سكان (ميت شواشي) على هذا الأمر، وقرروا إعلان غضبهم للمسئولين، لعلهم يدركون أنهم قرية، مثل باقي القرى ويحتاجون إلى محطة (أتوبيس) ..

ولأن معظم سكان (ميت شواشي) من محدودي الدخل والتعليم، فقد لجأوا إلى الأستاذ (عوض)، الحاصل على دبلوم الصنايع، وابن شيخ الخفراء الحاج (أحمد)، وعرضوا عليه مشكلتهم، وطلبوا منه أن يتحدث باسمهم إلى المسئولين، ليقنعوا (الأتوبيس) بالتوقف عند (ميت شواشي) ..

وشعر الأستاذ (عوض) بالمسئولية الملقاة على عاتقه، فكتب شكوى ضخمة، وحملها إلى القرية المجاورة، حيث استقل (الأتوبيس) إلى المدينة، ليعرضها على المسئولين هناك ..

واستقبل المسئول الأستاذ (عوض) في حرارة، واستمع إليه في اهتمام، ثم وعده بحل المشكلة، وصافحه مودعًا ..

وعاد الأستاذ (عوض) إلى قريته، والأمل يملأ نفسه، ويشع من وجهه وعينيه، وأبلغ الجميع أن المشكلة في طريقها إلى الحل، في أيام معدودات ..
واستبشر السكان خيرًا، وانتظروا مرور هذه الأيام المعدودات في صبر، ولكن الأيام مرت، وأصبحت أسابيع، وشهورًا، دون أن يتوقف (الأتوبيس) أمام (ميت شواشي)، أو يبدو حتى أنه سيفعل ..
وعاد السكان إلى الأستاذ (عوض)، وأعلنوا تذمرهم وغضبهم، فما كان منه إلا أن كتب شكوى جديدة، وعاد بها إلى المسئول ..

رائج :   لاعب الشطرنج || د : أحمد خالد توفيق

وفي حرارة اكبر استقبله المسئول، وأكد له أن المشكلة في طريقها إلى الحل، وان (الأتوبيس) ستوقف حتمًا عند (ميت شواشي)، ولكنها مسألة روتين، وبيروقراطية، وخلافهما ..
ونقل الأستاذ (عوض) هذا الحديث للسكان، الذين قرروا الانتظار في صبر مرة أخرى ، لأيام وأسابيع وشهور دون جدوى ..
وهنا ثارت ثائرة الأستاذ (عوض)، وأعلن لسكان القرية أن (الأتوبيس) سيتوقف عند (ميت شواشي)، ولو على جثته ..
واحتفى الأستاذ (عوض) يومين في منزله، ثم خرج إلى أهل القرية منتشيًا ظافرًا، وهو يحمل لا فتة مستديرة، فوق عامود طويل، كتب عليها بخط أنيق كلمة (موقف أتوبيس)..
وفي احتفال شعبي صغير، غرس السكان اللافتة عند مدخل القرية، ووقفوا إلى جوارها ينتظرون (الأتوبيس) ..
ولكن (الأتوبيس) مضى، دون أن يلتفت إلى اللافتة، متجاهلًا إياها تمامًا، بحجة أن خط السير الرسمي، الذي سلموه إياه في محطة البداية لا يتضمن التوقف عند هذه القرية، التي يجهل حتى اسمها ..

وشعر الأستاذ (عوض) بهزة قوية في كرامته، وبدا له الأمر وكأنه طعنة شخصية له، وإهانة ما بعدها إهانة ..
وفي تلك الليلة لم يغمض له جفن ..
كان دمه يغلي في عروقه، ويتصاعد إلى مخه، فيشعر بغليانه، ويشم رائحة أبخرته المحترقة ..
صحيح أن أحدًا لم يوجه إليه اللوم، ولكن قضية (الأتوبيس) أصبحت قضيته الشخصية وأصبح عليه أن يوقفه ..
ولو على جثته ..

رائج :   عاهدني على أنك لاتكذب … قصة قصيرة

وفي ساعات الفجر الأولى، حمل (عوض) بندقية والده، وخرج ينتظر (الأتوبيس) ..

كان الجو رطبًا، والضباب ينتشر في كثافة، ولكنه أصر على التصدي لـ (الأتوبيس)، وإجباره على التوقف في (ميت شواشي) بالقوة ..
وسمع صوت (الأتوبيس)، مقبلًا وسط الضباب الكثيف، فرفع بندقيته، وهو يحاول اختراق الضباب ببصره ..
ثم فجأة ظهر (الأتوبيس) فجأة ..
ظهر على بعد متر واحد منه ..
وقبل أن يفعل الأستاذ (عوض) شيئًا، ارتطم به (الأتوبيس)، وأسقطه تحت عجلاته، وعبر فوقه ..
وفي (الأتوبيس) سأل السائق زميله الكمسري:
ـ يبدو أننا قد ارتطمنا بشيء.. أليس كذلك؟

كان الضباب كثيفًا، والرؤية شبه منعدمة، فقال الكمسري في لا مبالاة:
ـ لا تقلق.. إنه أحد الكلاب الضالة حتمًا.
هز السائق كتفيه، وهو يواصل طريقه، فوق جثة الأستاذ (عوض) ..
ودون أن يتوقف في ((ميت شواشي) .

(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ التجربة الرهيبة ـ رقم 15)

Related Articles