قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || سعدية ج2

حاولت أن أتظاهر باللامبالاة، وأنا أقول:أي طبيب بسيط يمكنه معرفة هذا
سألتني في دهشة: وهل عرفت من الطبيب؟
أغضبتني عبارتها، ولكنني تجاهلتها تماماً، وأنا أسألها: المهم.. كيف حالها الآن؟
تطلعت إليّ لحظات في شيء من الاستنكار، قبل أن تقول: لقد أجرت عملية الزائدة الدودية
هتفت: حقاً
أكملت في حزم: وماتت
وصعقني الجواب..
إلى أقصى حد

لم أستطع تصديق ما سمعته
سعدية ماتت؟
وفي عملية إزالة زائدة دودية ملتهبة؟
أمعقول هذا؟
سعدية بكل جمالها ورقتها تموت؟
وبهذه البساطة؟
لا يمكنني أن أصف كيف هالني الأمر وأفزعني، ولا كيف شعرت بالحزن والمرارة
سعدية الجميلة ماتت لأنها أطاعتني
لأنها فعلت ما نصحتها به
وأجرت العملية الجراحية

الخبر صدمني، ورجني من الأعماق، ومزق نياط قلبي تمزيقاً بلا رحمة، حتى إنني لم أبالِ بنظرة فهيمة المستنكرة المندهشة، ولا حتى بسؤالها: لماذا تأثرت إلى هذا الحد؟
أجبتها في مرارة وأسى: ومن ذا الذي يتجاهل موت فاتنة مثلها؟
هتفت بدهشة أكثر: فاتنة؟
ثم نهضت، متسائلة: وكيف عرفت هذا؟
أجبتها في حدة: لماذا يدهشك هذا؟!… إنني أعرف سعدية جيداً، لأنني وقعت الكشف الطبي عليها
هتفت بصوت مرتفع: كشف طبي؟؟
وارتجف صوتها فيّ، وهي تضيف: هذا مستحيل!… مستحيل تماماً
صحت بها في غضب: ولماذا مستحيل!… ألستُ طبيباً؟
أجابتني في توتر بالغ: بالتأكيد، ولكنك لم تكن هنا، عندما ماتت سعدية في العملية
سألتها مندهشاً: ماذا تعنين؟

أجابت ذاهلة: سعدية ماتت منذ خمس سنوات
صدمني الجواب بشدة، وهتفت بها:أي قول مختل هذا؟!.. سعدية التي أتحدث عنها كانت هنا منذ شهر ونصف الشهر فحسب
هتفت: مستحيل
قلت في إصرار: لقد فحصتها بنفسي
بدت حائرة مرتبكة، وخائفة بعض الشيء، قبل أن تقول في عصبية: إذن، فنحن نتحدث عن سعدية مختلفة
قالتها، واندفعت مغادرة السكن، وكأنها ترفض الحديث عن ذلك الأمر
وبقيت وحدي أرتجف، من فرط الانفعال
مستحيل
ما تقوله مستحيل
لا يمكن أن تكون سعدية التي ماتت، هي سعدية التي أعرفها، والتي فحصتها بنفسي
لقد لمستها، وشعرت بجسدها ودفئها
من المستحيل أن تكون هي
من المستحيل تماماً
أويت إلى فراشي مضطرباً، وأنا أفكر فيما سمعته من فهيمة، وأحاول، و
وفجأة، سمعت دقاتها
لوهلة، خُيل إليّ أنه جزء من حلم ما، فأرهقت سمعي، لأسمع الدقات مرة ثانية
نفس الدقات الهادئة، الرقيقة، الخجلى
وكالصاروخ، وثبت نحو الباب… وفتحته
وكانت هناك…
سعدية..

رائج :   كلب عجوز و حيلة جديدة || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

بشحمها ولحمها، وسمرتها، وجمالها، وعينيها الواسعتين السوداوين
وقبل أن أنبس ببنت شفة همست: أشعر بألم في معدتي
ثم وجدتنا هناك في حجرة الكشف الطبي
وجدت نفسي أفحصها، وأتحسس موضع الزائدة الدودية في حرص أكثر، واهتمام أكبر
وشعرت بملمسها
وجسدها…
ودفئها…
إنها حقيقية..
حتماً حقيقية..
ومرة أخرى، اقترحت عليها أن تجري عملية الزائدة الدودية
ومرة أخرى رفضت في إصرار
وجرت..
واختفت..
السيناريو نفسه، كما يحدث في كل مرة
وهنا أيضاً عدت إلى فراشي
ونمت بمنتهى العمق

استيقظت في الصباح الباكر جداً، في حالة من النشاط والحيوية، لم أعهد نفسي عليها من قبل، حتى إنني هبطت إلى عيادة الكشف الطبي، قبل أن يصل أي من العاملين فيها
وقبل أن ينصرف عم حارس الخفير الليلي
رأيته يلملم أشياءه، وأنا أهبط في درجات السلم، فألقيت عليه التحية، وسألته: كيف حالك يا عم حارس؟
أجابني في حماس: في خير حال يا دكتور… نوم العافية.. أرى أنك نمت بعمق الليلة
سألته مبتسماً: كيف عرفت؟
أجابني في سرعة: لم أرَ ضوء حجرتك قط طوال الليل
توقفت لأسأله في دهشة: أأنت هنا طوال الليل؟
أجابني في حماس: بالطبع

ملت نحوه، وضحكت، قائلاً: يالك من كاذب كبير!!… كيف تدعي أنك هنا، ولم أرَك قط
أجابني في تلقائية صادقة: لأنك لم تستيقظ، منذ أويت إلى فراشك
قرصت أذنه، قائلاً: خطأ أيها العجوز… لقد هبطت لتوقيع الكشف الطبي على سعدية الحلبية، و
قاطعتني نظرة الدهشة المستنكرة في عينيه، فتوقفت لأسأله: ألا تصدقني؟
أجابني في سرعة: لا يمكنني تكذيبك يا دكتور، ولكنني أجهل معنى ما تقوله، فأنا لم أفارق مكاني بالفعل، طوال ليلة أمس، ولم أشاهد حلبية أو مغربية، بل ولم أشاهدك تهتبط إلى حجرة الكشف قط
هتفت: عم حارس

أجابني في حزم: صدقني يا دكتور.. هذ لم يحدث أبداً
ملت نحوه في غضب، قائلاً: وماذا لو أيدت سعدية قولي؟
نظر إلى عيني مباشرة، وهو يقول: مستحيل يادكتور!… إنه مجرد حلم… أو كابوس
توقفت مغمغماً: كابوس
أجابني في حزم: نعم… وخصوصاً أنك رأيت فيه عفريت سعدية
هتفت: عفريت مين؟
أجابني بمنتهى الحزم: عفريت سعدية الحلبية، التي ماتت في عملية زائدة دودية منذ خمس سنوات، وترفض مغادرة الوحدة الصحية، منذ ذلك الحين… لست أول طبيب يراها
وكانت هذه مفاجأة جديدة…
ومذهلة

هل يمكنك أن تصدق أمراً كهذا، لو مررت به؟
مستحيل
هذا بالضبط ما حدث معي
لم أصدق ما قاله حارس قط
صحيح أن الأمور كانت تتفق مع ما قاله، خاصة أن سعدية تؤدي دورها نفسه في كل مرة
ولكنها تختفي في النهاية
كل مرة تختفي، بعد أن نصل إلى عبارة واحدة
أن العملية ستقتلها
لقد قضيت ذلك اليوم كله، وأنا أفكر فيما قاله عم حارس حتى إنني لم أستطع القيام بواجبي اليومي، فصرفت كل الحالات غير العاجلة، وأحلت العاجلة إلى أقرب وحدة صحية، وأويت إلى فراشي مبكراً
وتحت الغطاء والدفء رحت أستعيد كل ما حدث
أمن الممكن فعلاً أن تكون سعدية مجرد شبح؟
شبح بكل هذا الجمال؟
إنني أسمع دقاتها الرقيقة على بابي، وصوتها الهادئ العذب وهي تصف حالتها
ثم إنني فحصتها بنفسي
شعرت بجسدها..
بدفئها..

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الشبح

وهذا لا يمكن أن يحدث مع شبح
الأشباح لا ملمس لها..
لا يمكنني أن أتحسسها
لا يمكن أن تكون دافئة..
ثم بدأ عقلي يستوعب الأمر، من زاوية مختلفة
لماذا تصورت أنني قد فحصتها بالفعل؟
لماذا لا يكون هذا مجرد حلم
ثم عم حارس يؤكد أنني لم أهبط إلى حجرة الكشف أمس
ولم تكن سعدية هناك
ربما كان مجرد حلم إذن
حلم واضح قوي، أحياه بكل مشاعري، حتى يخيل إلي أنه حقيقة واقعة
لقد قرأت شيئاً كهذا
قرأت عن أحلام تبدو أشبه بالواقع
أحلام يشعر خلالها المرء، كما لو أنه يخوض تجربة حقيقية
ربما كان مجرد حلم

ولكن لماذا ظهرت فيه سعدية؟
كيف علمت بوجودها؟
أو بحالتها؟
هذا لغز آخر
لغز كبير…
ولكن النوم العميق للغاية، الذي يترادف مع الأمر في كل مرة، يرجح فكرة الحلم
ويا له من حلم
حاولت أن أستعيد التفاصيل، ففوجئت بأن هناك دوماً فجوات، أعجز عن تذكرها
لحظات ضائعة في كل مرة
فهي تظهر عند الباب
ثم تصبح داخل حجرة الكشف الطبي
وهذا لا يتفق مع الواقع
بل مع الحلم..
في عالم الأحلام فقط، لا تكون هناك أهمية لترتيب الأحداث، أو حتى لمنطقها
نعم على الرغم من غرابته، فهو حلم
حلم زارني فيه شبح سعدية
الفكرة كانت مفزعة، إلا أنها دفعتني للنوم
النوم العميق
النوم العميق الذي استيقظت منه، على صوت دقاتها الرقيقة

وفي لحظة كنت أقف أمامها، وهي تقول عبارتها التقليدية: أشعر بألم في معدتي
وفي اللحظة التالية، كنا في حجرة الكشف الطبي
والعجيب أنني لم أكن أشعر بالخوف
ولا بأدنى ذرة منه
كنت فقط أشعر بقلبي يهفو إليها
ومرة أخرى فحصتها، وشعرت بلمسها، وجسدها، ودفئها… وكما يحدث دوماً، تطلعت إليها وكدت أخبرها أنها بحاجة إلى عملية جراحية
ولكن فجأة، قفزت فكرة أخرى إلى رأسي
ولوقت طويل نسبياً، تطلعت إلى سعدية في صمت، حتى سألتني هي بصوتها الرقيق: ألن تخبرني ماذا ينبغي أن أفعل؟
قلت في خفوت: سنحاول معالجة الالتهاب
حمل صوتها لهفة كبيرة، وهي تسألني: ألن يحتاج الأمر إلى عملية جراحية
كنت أعلم أنها بحاجة إلى هذا، وعلى الرغم من ذلك فقد أجبتها بنفس الخفوت: كلا.. سنستخدم علاجاً طبياً فقط

رائج :   فايرس الـ Auto Run .. أرخم أنواع الفيروسات .. أصبح له حل!

رأيت عينيها تتألقان، وهي تقول في شيء من السعادة: حقاً؟
قلت في هدوء عجيب: نعم يا سعدية.. لا عمليات جراحية
سمعتها تتنهد في ارتياح عام، قبل أن تقول: لا يمكنك أن تتصور كم أرحتني
غممت: تصورت هذا
دارت حول نفسها كراقصة بالية رقيقة، وهي تقول في سعادة جمة: منذ خمس سنوات أشتاق لسماع هذا
غمغمتُ: منذ قتلتك العملية
لم يبدُ أنها سمعتني، وهي تتابع في سعادة:كنت أعلم أن هناك علاجا بديلا.. العملية الجراحية لم تكن أبداً ضرورية
غمغمت: هذا ما يبدو
دارت حول نفسها دورة أخيرة، ثم وقفت في وسط حجرة الكشف الطبي، وتطلعت إليّ في امتنان شديد، وهي تقول: كيف يمكنني أن أشكرك؟
غمغمت، وأنا أشعر بنعاس شديد، يسيطر على كياني كله: ابقِي هنا
هزت رأسها في رقة، وقالت: لم يعد باستطاعتي هذا
ثم مالت نحوي، حتى شعرت بأنفاسها العطرة، وهي تضيف: لقد حررتني
العبارة عنت الكثير..
والكثير جداً..

وتضاعف شعوري بالنعاس..
تضاعف ألف مرة، وأنا أتابعها بعينين متثاقلتين، وهي تتجه كفراشة رقيقة نحو الباب، قائلة: ولا يمكنك أن تتصور كم أرحتني
وخرجت من الباب..
وذابت وسط الظلام
واستيقظت في الصباح التالي، بعد نوم عميق..
عميق للغاية..
وكانت آخر مرة تظهر فيها سعدية
وآخر مرة أراها فيها
ولسنوات طويلة، حاولت كتمان هذه القصة بكل أحداثها في أعمق أعماقي
ولسبب ما، رأيت أن الوقت قد حان لأرويها
ربما لأن الوقت قد حان لرؤيتها فحسب
أو بسبب حلم..
حلم راوداني، ورأيت فيه وجهها الأسمر
وعينيها السوداوين الواسعتين
عيني الحلبيّة..
سعدية..

————————————–
(كوكتيل 2000 ـ الزهرة القرمزية ـ رقم 47)

مقالات ذات صلة