أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الانسحاب الثاني .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب رسالتي هذه ردا ونصحا لطرفي رسالة الطريق المنحدر التي نشرتها بـ بريد الجمعة وسيتضح لك ولهما أن قصتي بدأت حيث انتهى طريقي المنحدر‏,‏ والذي بدأ بعودتي للعمل في نفس المستشفي الذي بدأت فيه حياتي العملية كطبيب بعد نحو ثماني سنوات من التنقل للخدمة بأكثر من مستشفى حسب ما تقتضيه وظيفتي وتخصصي‏,‏

فكان أن التقيت ثانية بالفتاة التي أحببتها في بداية حياتي العملية ومنعتني ظروف لا ذنب لي أو لها فيها من الارتباط بها‏,‏ وكانت تلك مشيئة الله‏,‏ إذ كيف لطبيب مبتدئ لا يملك سوى مرتبه أن يتقدم لفتاة أعلى منه ماديا واجتماعيا؟ وكيف لشاب في بدء حياته أن ينجح في الارتباط بتلك الفتاة‏,‏ وقد شاء قدرها أن تترمل وهي لم تبلغ بعد الثالثة والعشرين‏,‏ وصار لديها ولدان صغيران‏,‏ وهو لا يملك أي خبرة في الحياة ولا يملك أسباب القيام بأعباء أسرة كتلك أو أن يعولها؟‏!‏

فكان انسحابي المخجل رغما عني‏,‏ وبرغم حبي الشديد لها‏,‏ وكذلك برغم إيماني بضرورة وجودي إلى جانبها‏,‏ وقد آثرت أن أفسح المجال لمن يقدر ولمن يستحق‏,‏ هكذا تصورت وقتها وهكذا قررت استكمال حياتي بعيدا عنها‏,‏ وقد شاء الله عز وجل أن يرزقني بمن ترتضيني زوجا‏,‏ وجعل لي معها السكن والمودة فسارت بي الحياة بعد ذلك زوجا وأبا ورزقني الله من فضله النجاح في العمل والشهرة في مجالي كطبيب‏,‏

حتى صارت لي عيادتي الخاصة والتي أضحت قبلة لكثير من المرضى سواء من مصر أو خارجها‏,‏ وأراد الله من فضله وبمشيئته أن أكون سببا في شفاء الكثيرين منهم‏..‏ وكانت تلك نعمة من الله من نعم كثيرة أفاض بها علي عز وجل وهي لا تعد ولا تحصي‏..‏

وبعودتي للخدمة بالمستشفي الذي بدأت به حياتي العملية وبعد بعثة بالخارج التقيت بها ثانية‏,‏ فإذا بها قد ازدادت جمالا وتألقا وقد تزوجت ثانية بعد ترملها وبعد انسحابي من حياتها‏,‏ إلا أنني قرأت في عينيها نظرة العتاب واللوم خاصة بعد أن علمت ممن حولها بمشكلاتها مع زوجها‏.‏

وهنا بدأ الشيطان وساوسه فصور لي ضرورة رفع هذا العتاب‏,‏ وأن أشرح لها ما حال بيني وبين ارتباطي بها في الماضي‏,‏ وأنني وإن كنت فيما سبق لم أستطع الوقوف بجانبها في معترك الحياة‏.‏ فإني أستطيع الآن وبما صار لي من مكانة علمية ومادية مساندتها ودعمها‏..‏

ومن هنا بدأ طريقي المنحدر والذي بالطبع لم يكن يبدو لي كذلك‏,‏ بل بدا طريقا نحو القمة وسلما إلى السماء‏,‏ وحاولت أن أفتح حوارا معها بشتى الطرق حتى نجحت‏,‏ ثم صار ذلك الحوار أحاديث طويلة حتى تقبلت عذري وتفهمت أسباب انسحابي من حياتها في الماضي‏,‏ ولم أكتف بذلك وإنما سولت لي نفسي أن أمارس معها دور الفارس النبيل الذي جاء علي حصانه الأبيض لينتشلها من متاعبها الحالية مع زوجها ومع الحياة كلها‏,‏ ويقف بجوارها‏.‏

رائج :   خاطر فى النهار !! .. رسالة من بريد الجمعة

فكان أن انفجر بركان الحب القديم في قلبي وقلبها وتجاوز هذا الانفجار حدود وضعنا الاجتماعي كزوج لأخرى وكزوجة لآخر‏,‏ وكان عذرنا اننا نحاول تصحيح ما كان من قبل وإعادة المياه إلى مجاريها‏,‏ ودعني أعترف بكل مرارة وندم لعلي أكفر عن نفسي ما لن أغفره لها‏..‏

ذلك أني لم أكتف بذلك وإنما رحت أضغط عليها وأمارس معها كل الحيل التي تجعلها تميل نحوي وترفض حياتها مع زوجها متعللا أمام نفسي كذبا وافتراء بأنها لا تجد مع زوجها السعادة أو الحب الذي تستحقه حتى خضعت المسكينة وصارت لقاءاتنا هي محور حياتي‏,‏ وأهملت أسرتي وعيادتي وأنا في كل ذلك أمضي كالأعمى ناسيا لربي وفضله علي‏,‏ قاتلا لضميري‏..‏

وهكذا سقطت أنا وأسقطتها معي حتي صرت سلواها الوحيدة وأملها الوحيد‏,‏ ولك أن تتخيل ما كانت تفعله هذه الكلمات وهي تلقى همسا في أذني بل ويزيد عليها أنني رجلها الوحيد‏,‏ وهي التي كانت لي ذات يوم أملا بعيدا وحلما نائيا‏,‏ فإذا بها بين يدي وأمام عيني وأكثر من ذلك‏!!‏

وهنا كان لابد ــ من رحمة الله ــ أن تدركنا حتى لا نتمادى أكثر في الخطأ والخطيئة وأن يجئ العقاب الإلهي الذي استحقه كل الاستحقاق ومن حيث لم أحتسب أو أتوقع‏..‏ وجاء هذا العقاب منا نحن الاثنين‏,‏ ولم يأت من غيرنا‏..‏ وبدأ بوقفة مريرة أمام نفسي وضميري‏,‏ رأيتني فيها لا أملك ما يستر خطيئتي ولا يبرر فعلتي‏..‏

وإذا بزلزال عنيف يطبق السماء فوق رأسي ويضيق الأرض علي بما رحبت‏..‏ فكيف فعلت ذلك وتماديت فيه؟ وكيف غاصت أقدامي في هذا الوحل وأنا الذي أنعم ربي علي بما لا يعد ولا يحصى من النعم؟‏ ..‏ وكيف أوقعت بتلك المسكينة حتى سقطت معي؟‏!..‏ لا يمكن أن أصف في سطور ما أنا فيه سوى أنني لا أحيا إلا بمرارة الاحساس بالذنب والشعور القاتل بالندم‏,‏ ويعلو أنيني أمام ربي في جوف الليل لعله يتقبل توبتي‏..‏

وإذا بي وأمام هذا الاستيقاظ المتأخر لضميري أجدني مضطرا للانسحاب مرة أخرى من حياتها ودون أية مقدمات‏,‏ وألم المعصية يعتصرني‏..‏ وإذا بي وبفعلتي وأفعالي هذه أدمر حياتها وهي حبي الوحيد‏,‏ وينتهي بها الحال للطلاق والعودة لمعاناة ويلات الحياة وحيدة ضائعة حتى فقدت صوابها‏,‏ وحاولت الانتقام مني بفضح علاقتنا أمام زوجتي حتى في أدنى تفاصيلها المخزية ,‏

ولكن انتقامها جاء متأخرا فقد انفصلت عن زوجتي لأنني لم أحتمل استكمال الحياة مع من لم أر منها إلا كل خير‏,‏ فكان انتقامها مجرد تأكيد لهذا الانفصال‏.‏ فكيف انتهى بنا الحال إلى هذا وقد ابتدأ بمجرد اعتقاد موهوم بأنني الصدر الحنون أو الأمل المفقود الذي يمكن أن يخفف عن إنسانة ما متاعبها في الحياة‏ ..‏ إنني الآن على مشارف الأربعين من العمر‏,‏ وأشعر بأنني في نهاية العمر‏..‏

رائج :   دليل الوقاية الشامل لتأمين بيتك وأسرتك ضد فايرس كورونا

لا أرى أملا أو غاية سوى عفو الله ومغفرته‏ ..‏ وقد أرسلت لك هذه الرسالة معترفا بكل أخطائي ومدركا تمام الإدراك أنني استحق ما أنا فيه‏,‏ بل وأراه قليلا‏,‏ ولكن الأهم والذي أرجوه هو أن تكون نصحا لكل من يقرأها لكي يحذر الوقوع والانحدار إلى ما انحدرت إليه‏,‏ ولكيلا ينتهي به الحال لما انتهى بي وبها‏,‏ وقد أرسلتها أيضا كحلقة صغيرة‏,‏ وأرجو السماح والعفو من كل من آذيتهم وتسببت في إيلامهم‏..‏

وأخيرا فإني أدعو الله القادر العظيم عز وجل أن يقبل توبتي وهو القائل سبحانه وتعالى‏:‏ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون‏..‏
صدق الله العظيم

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏ (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :‏

لو تحدث أحد ساعات طويلة عن عواقب الاستجابة لهوى النفس والانحراف عن الطريق القويم‏,‏ لما استطاع أن يقنع سامعيه بأبلغ مما تفعل رسالتك هذه‏!.‏ فهي تقدم لنا نموذجا مثاليا لتبعات الضعف الأخلاقي والجري وراء الأوهام والانخداع بدعاوي الحب القديم الذي انتفض فجأة كالمارد بعد سنوات طويلة من آخر لقاء‏..‏

وغير ذلك من الترهات التي يخدع بها نفسه من يضيق بالحياة العائلية الهادئة والمحترمة‏,‏ ويتوق إلي تجربة الإثارة والمغامرة والمتعة اللاذعة‏,‏ وكلها بطبيعتها مؤقتة وقصيرة الأمد مهما طالت‏..‏ولهذا قالت شاعرة أمريكية‏:‏ متعة الحب تدوم لحظة‏..‏ وشجن الحب يدوم إلى الأبد‏!‏ أي تبعاته وعواقبه‏.‏

ولنراجع معا ما حققته مغامرتك الخطيرة بإحياء العلاقة القديمة التي كانت بينك وبين سيدة لم تستطع أن ترتبط بها في بداية شبابك لأسباب مادية واجتماعية؟

لقد رأيت في عينيها كما تقول نظرة العتاب لخذلانك السابق لها وانسحابك من حياتها‏,‏ مما أدى بها بعد فترة للزواج من غيرك والشقاء في زواجها‏,‏ فقررت أن تشرح لها أسبابك‏..‏ ثم انتقلت من رفع العتاب وشرح الأسباب إلى مداعبة مشاعرها العاطفية القديمة ومحاولة إحيائها حتى استجابت لك‏,‏ فخطت بذلك خطوة واسعة على الطريق المنحدر إياه‏..‏

ولم تكتف بذلك وإنما واصلت فحيحك وهمسك المسموم لها حتى تمادت معك في نفس الطريق الذي تقود كل خطوة عليه إلى نقطة أبعد عن الطريق القويم‏,‏ حتى وصلتما معا إلي السفح‏.‏ وحينئذ فقط استشعرت الندم على ما كان من أمركما معا وأحسست بالذنب والإثم فانسحبت للمرة الثانية من حياتها‏,‏ وعاودت خذلانها من جديد بعد أن كانت حياتها قد تأثرت تأثرا مدمرا بعلاقتها بك‏..‏

فطلقت بعد انسحابك من زوجها‏,‏ وامتد الأثر المدمر إلى حياتك العائلية كذلك فتهدمت أسرتك الصغيرة وطلقت أنت زوجتك‏.‏
فأي ثمن باهظ لمتعة عابرة‏..‏ وإثارة موقوتة‏..‏ ومغامرة محفوفة من قبل البداية بالمخاطر؟

ولماذا وقد خلا الطريق أمامك بطلاقها من زوجها وطلاقك من زوجتك ـ التي لم تر معها باعترافك إلا كل جميل ـ لم تفكر في تصحيح الوضع الخاطئ وتعويض تلك السيدة عما خسرته بالزواج منها‏,‏ وهي التي كانت ــ كما تقول ــ حلمك القديم؟
قد تعلل ذلك بأن العلاقة بينكما قد خسرت بعد انسحابك الثاني من حياتها‏,‏ وأن مشاعرها تجاهك قد تحولت إلى العداء لك حتى رغبت في الانتقام منك بالاساءة إليك لدى زوجتك‏,‏ لكن انتقامها جاء متأخرا لأنك كنت قد طلقت زوجتك‏.‏

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || بالدم

وقد تشعر بأنك قد أدركت بالتجربة أن ما كنت تعتقد أنه حب العمر الذي حرمت من جني ثماره في بداية الشباب‏..‏ قد تكشف لك عن وهم لا يصمد لاختبارات الحياة فعزفت عن الارتباط بصاحبته‏..‏ وقد يكون هذا السبب أو ذاك صحيحا في بعض جوانبه‏..‏ لكن هناك سببا آخر خفيا‏..‏ هو الدافع الحقيقي لك للانصراف عن فكرة الارتباط بها الآن‏.‏ إنه دافع باطني يمور في داخلك‏,‏ قد تخجل من الاعتراف به حتى لنفسك‏,‏ ذلك انك لا تثق في أعماقك في أخلاقيات هذه السيدة التي مضت معك في الطريق المنحدر حتى الهاوية وهي زوجة لرجل آخر‏,‏ ولا تأتمنها على عرضك وشرفك واسمك‏.‏

فإذا أردت تصويرا صادقا لنوع العلاقة التي كانت بينكما حتى في أوج اشتعال الحب بينكما لما وجدت أبلغ مما صاغه الروائي الفرنسي لاكلو في روايته علاقات خطرة واصفا به علاقة مركيزة فاجرة بعشيق لها يشاركها التآمر على مركيز شاب كان عاشقا سابقا لها وخانها‏,‏ فقال‏:‏

مثلهما مثل لصين يعملان معا‏,‏ يجمعهما تقدير متبادل من أحدهما للآخر في عمله‏,‏ لكنه تقدير لا يرقي أبدا ولن يرقي ذات يوم إلى حد الثقة‏!‏
وهكذا كان الحال بينك وبين تلك السيدة خلال العلاقة وبعدها‏,‏ وهكذا هو الحال في معظم العلاقات الآثمة المشابهة التي تخون فيها زوجة وأم زوجها بدعوى الحب والضعف العاطفي‏..‏ كما أنه أيضا الدرس الحقيقي لقصتك هذه التي ترغب في أن تكون نصحا للآخرين‏.‏

إن لكل شئ ثمنا في الحياة‏..‏ للمتعة والتحلل من القيود الأخلاقية ثمن‏..‏ ولرد النفس عن أهوائها وإلزامها بالطريق القويم ثمن كذلك‏..‏ وكل إنسان يجني في النهاية ثمرة ما غرس‏..‏

إنني أرجو في النهاية أن يكون ندمك صادقا وحقيقيا‏,‏ وأن تتطهر روحك من إثم هذه العلاقة ــ السابقة‏,‏ وأن تحاول تحجيم خسائرك فيها بمحاولة السعي للإصلاح بينك وبين زوجتك السابقة‏,‏ وإعادة شملكما وأطفالكما معا‏..‏ كما أرجو أن تكثر من الاستغفار وتدعو الله كثيرا أن يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏,‏ وإثم تخبيب امرأة على زوجها كما جاء في مضمون الحديث الشريف الذي يقول ليس منا من خبب امرأة علي زوجها أي أفسدها عليه حتى ضاقت بالعيش معه ورغبت في هجره‏.‏

والله سبحانه وتعالى في النهاية هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو وإليه المصير صدق الله العظيم الآية‏3/‏ غافر‏.‏

نشرت عام 2004

من أرشيف جريدة الأهرام

Related Articles