أجمل رسائل بريد الجمعة

الموعد المرتقب ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا يا سيدي شاب في الثامنة والعشرين من عمري ، نشأت في أسرة متوسطة وهادئة بين أبي ، الذي يعمل محاسباً بالقطاع العام ، وأمي التي تعمل بالتدريس ، وأختين تصغرانني ، وقد عشنا حياتنا في ظل أبوينا ، اللذين كانا وما زالا زوجين مثاليين ومتفاهمين ، فنشأنا نحب الناس ، والأهل ، وتتفتح قلوبنا للآخرين بسهولة..
ورأينا دائماً أمي ترحب بأهل أبي ، وتحبهم وأبي يحرص على مجاملة أهل أمي باستمرار ، فكنا ننتقل بين بيت جدتي لأبي وبيت جدتي لأمي وأخوالي ، فلا نجد هنا وهناك سوى الحب والاعتزاز والإشادة بأبينا وأمنا .

وقد عشت طفولتي وصباي في مسكن أسرتي السابق في حي إمبابة ، حيث الحياة الشعبية والزحام والبساطة وأشياء كثيرة ، ثم جاءت لأبي فرصة للعمل بإحدى المؤسسات الاستثمارية بدولة عربية ؛ فسافر إليها ، وأنا في الخامسة عشرة من عمري ، وعمل هناك ست سنوات كاملة ، كان يتردد علينا خلالها كل صيف لمدة شهر، ثم رجع أبي حين تخرجت واستقر في مصر ، وعمل بفرع تلك المؤسسة الاستثمارية في مصر ..

وتغيرت حياتنا إلى الأفضل في أشياء كثيرة ، فاشترى أبي شقة لزواجي في المستقبل ، ووضع لكل بنت من ابنتيه مبلغاً كافياً من المال في البنك لزواجها .. ثم رأى أن الوقت قد حان للانتقال من مسكن الحي الشعبي إلى شقة أوسع وأجمل بحي راق ، فانتقلنا إلى مدينة نصر ، وتباعدت المسافات بعض الشيء بيننا وبين مسكن أهل أمي ، ومسكن أهل أبي في الحي نفسه الذي نشأنا فيه ، ورغم سعادتنا بالعمارة الجديدة التي انتقلنا إليها ، ومدخلها الرخامي الأحمر الجميل ، والمصاعد الحديثة ، التي نستخدمها بديلاً للمصعد القديم المتهالك كثير الأعطال في عمارتنا السابقة ، إلا أنني وشقيقتي شعرنا ببعض الوحشة ، في هذا الحي الجديد ، الذي يختلف كثيراً عن حيِّنا القديم ..

وشكت شقيقتاي دائماً من افتقادهما لصديقات المدرسة وجاراتهما في إمبابة ، وشكوت أنا أيضاً من افتقادي لأصدقاء الصبا وكرة القدم في الحي الشعبي ، فكان أبي يقول لنا إن هذه هي ضريبة الانتقال من “مستوى” إلى “مستوى” أرقى ، وإن علينا أن نقبل بها راضين ، ونتطلع لصداقات جديدة مع أبناء هذا الحي الراقي ، ووجدت شقيقتاي في زميلات المدرسة الجديدة بعض التعويض .

أما أنا فكنت لا أجد نفسي إلا بين أصدقاء الحي القديم ، وأزورهم كثيراً وأقضي أوقات فراغي معهم ، ثم نجح أبي في تعييني بأحد البنوك الاستثمارية ، وانشغلت بعملي فتباعدت زياراتي للحي القديم ، حتى كادت تنقطع .. ثم كلفت ذات يوم بمهمة عمل في المركز الرئيسي للبنك بوسط المدينة ، وذهبت إليه ففوجئت بفتاة جميلة ومحجبة تحييني بحرارة ، ثم تقول لي حين لاحظت ارتباكي :
– ألا تعرفني يا أستاذ فلان !! أنا فلانة ، أخت صديقك القديم فلان ؛ وتذكرتها على الفور ، وضحكت كثيراً وتعجبت لرؤياها ، وقد استوت شابة جميلة ، وهي التي كنت أظنها مازالت طفلة ، كما رأيتها آخر مرة .

وتحدثنا عن شقيقها ووالدتها الطيبة ، التي طالما أطعمتنا أشهى الأطعمة في بيتها ، ووالدها التاجر البسيط ، الذي تشع الطيبة من ملامح وجهه ، والذي كان أبي يحبه كثيراً ، ويشهد له بالأمانة وحسن السمعة . وعرفت منها أنها قد تخرجت في معهد فوق المتوسط للعلوم التجارية ، وعملت بهذا البنك منذ ستة شهور .

وفي البيت رويت لأبي وأمي عن لقائي بهذه الفتاة ، ونحن على مائدة العشاء ، فذكرا والدها ووالدتها بالخير ، وروى لنا أبي أنه في بداية زواجه حين كان الدخل شحيحاً ، كان يشتري احتياجات البيت من والدها بالأجل ، وكان الرجل سمحاً دائماً معه ، ويصبر عليه إلى أن يؤدي إليه دينه ، بغير أن يجرح مشاعره بكلمة واحدة ، وقال عنه أيضاً إنه تاجر شريف ، ولولا كثرة أبنائه لكان قد صنع ثروة.

وتكرر لقائي بعد ذلك بهذه الفتاة في البنك ، فلم ألبث أن وجدت نفسي مشدوداً إليها برباط سحري ، ووجدتني أسعى من حيث لا أدري إلى إحياء صداقتي القديمة بشقيقها ، وزرته بالفعل في البيت ، وعرفت أنه قد حصل أيضاً على شهادة فوق المتوسط ، ويعمل موظفاً بالقطاع العام ، وأن شقيقتيه الأخريين قد تزوجتا من تاجرين صغيرين ، وشقيقه الأكبر يعمل مدرساً بالوادي الجديد .

وسعد هذا الصديق القديم بظهوري مرة أخرى في حياته سعادة كبرى ، وأصر على دعوتي للغداء في يوم الجمعة التالي ؛ لنستعيد ذكريات زمان ، ونستمتع بطعام والدته الذي لا يبارى ، وحمَّلتني أمي وأبي السلام لوالدته ووالده ، ونعمت بقضاء وقت جميل ومريح – لأقصى حد – في كنف هذه الأسرة الطيبة ، وافتعلت بعد ذلك الأسباب ، للذهاب إلى مركز البنك الرئيسي بوسط المدينة ، وإلى بيت صديقي لهدف لا يخفى عليك ، إلى أن انتهزت أول فرصة مناسبة .. وصارحت شقيقة صديقي بحبي لها ، ورغبتي فيها كزوجة ، وطربت غاية الطرب ، حين فوجئت بها تبتسم ، وتقول لي ببساطة ، وبلا أي محاولة للإدعاء أو التظاهر بالمفاجأة : كنت حاقولها!

ووجدت نفسي أضحك منتشياً بردها ، حتى دمعت عيناي .. وقلت لها : ألم يكن من الأفضل أن تتجملي ، وتتظاهري بالدهشة والمفاجأة ، كما تفعل البنات الأخريات؟

فإذا بها تلقي علي درساً آخر في الصدق مع النفس والبساطة ، وتقول لي ، إنه ليس لديها ما يدعوها لذلك ، وهي التي كانت تدعو ربها كل يوم في صلاتها ، منذ التقت بي في البنك لأول مرة أن يجعلني من “نصيبها” لأنني كذا وكذا وكذا! وكل “كذا” منها شهادة مدح واعتزاز بي وبأخلاقي وأسرتي وأبي وأمي … إلخ .

ورجعت إلى بيتي سعيداً مبتهجاً ، وصارحت أبي برغبتي في الزواج منها ؛ ففوجئت به لا يتحمس للفكرة ولا يرحب بها ، ويقول لي إنه لا يعترض على الفتاة لشخصها أو لأسرتها فأسرتها أسرة طيبة وشريفة ، ولكنه يعترض فقط على “المستوى” ، الذي أرغب في التصاهر معه ! ..

فالفتاة ليست حاصلة على شهادة جامعية ، ووالدها – رغم طيبته وفضله – ليس طبيباً كبيراً ولا مهندساً مرموقاً ، ولا أستاذاً جامعياً لامعاً ، ولا رجل أعمال كبيراً ، وإنما هو – في النهاية- تاجر على قد حاله ، وليس بين شقيقاتها من تزوجت قاضياً ، أو محاسباً ، أو صيدلانيّاً …. إلخ ، وشقيقاها الآخران موظفان صغيران ، فماذا يغريني في الارتباط بفتاة تجذبني معها “إلى المستوى” الأدنى ، ولا ترفعني إلى أعلى ، بعد أن تفتحت أمامنا مجالات الارتقاء الاجتماعي .. وفرص مصاهرة الأسر الكبيرة !

رائج :   العصافير الخرساء ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وصدمت في حديث أبي صدمة هائلة ؛ فلقد كان يتكلم لغة جديدة علينا ، ورغم ذلك .. فإنني لم أفقد الأمل فيه نهائياً ؛ لأنه ليس أباً ديكتاتوراً ولا قاسياً ، وإنما أب عطوف ومتفاهم ، ويفتح الباب دائماً لمناقشته ، وأملت في أن أجد لدى أمي عوناً لي عليه ، وتحدثت إلى أمي في الأمر ؛ ففوجئت بها تؤيد أبي في وجهة نظره ، وتؤكد لي – على استحياء- أنها تريد لي كأبي فتاة أفضل من هذه الفتاة ، التي لا عيب فيها سوى ” مستواها” الاجتماعي ، الأقل من مستوانا !

وجادلت أمي طويلاً ، فلم أصل معها إلى شيء ، وانتهى الجدال بأن طلبت مني التفكير في الأمر لفترة أخرى ، قبل أن نرجع لمناقشته من جديد .
وبعد أسبوع زرت صديقي القديم في بيته ؛ ففوجئت به يستقبلني بالعناق الحار والتهنئة بالخطبة القريبة السعيدة !

وقبل أن أفيق من ذهولي ، جاءت والدته بعد لحظات ، فإذا بها تزغرد زغرودة طويلة ، قبل أن ترحب بي بحرارة شديدة ، وتقول لي بابتهاج إنها لم تتمالك نفسها من الفرحة ، فزغردت رغماً عنها حين رأتني ، وأدركت أن فتاتي لم تخف شيئاً مما حدث بيننا ، وأن الجميع يعرفون برغبتي فيها ، وأسرتني بساطة هؤلاء الناس، وعدم تحفظهم في إبداء مشاعرهم، وعدم تصنعهم للتمنع أو التردد أمام طلبي، وِأسرني أكثر ما قالته لي الأم من أنها أيضاً قد تمنتني لابنتها، حين روت لها أنها قابلتني بالصدفة في البنك لأول مرة .

وعجبت لهذا الجو المريح من الصراحة ، وعدم إخفاء المشاعر أو التظاهر بعكسها، ولكني شعرت بالحرج الذي أواجهه ، وأبي وأمي يرفضان ارتباطي بهذه الفتاة .. فتغلبت على جرحي ، وقلت للأم : إن الانتظار لن يطول بإذن الله.

وسوف أتقدم لابنتها في الوقت الذي تسمح به ظروفي وظروف أسرتي .. فقالت الأم إنها لا تطلب مني سوى شيء واحد، وهو ألا أزور ابنتها في البنك ، إلا بعد قراءة الفاتحة ..
وإلى أن يتم ذلك فبيتها هو بيتي، وأنا “أخوها” وهي “أختي” ، وأستطيع أن أتحدث معها في صالون البيت في أي وقت أشاء! . وبالفعل فلقد بدأت أزور فتاتي في بيتها بانتظام ، وأجلس معها في الصالون ؛ حيث يظل الباب مفتوحاً وأمها أوشقيقها يتحركان في جواري ، ولا يضيقان أبداً بزياراتي ، وقد صارحت فتاتي بحقيقة الموقف فأكدت تمسكها بي وصبرها إلى أن أنال موافقة أبي وأمي ؛ لأنه بدونها لا يمكن أن ترتبط بي .

وقررت أن أعمل بالنصيحة ، التي تنصحها للأبناء حين يواجهون هذه المشكلة ، وألا أكف عن محاولة إقناع أبي وأمي باختياري ، مؤكداً لهما أنني لن أخرج على طاعتهما ، ولكني أطالبهما بإعادة النظر في الأمر ؛ لأن عدم اقتناعهما به لن يكون له عائد ، سوى أن أحرم نفسي من السعادة التي أريدها ، أو أن أؤجلها إلى أن تلين القلوب ولو بعد حين !

وواصلت حياتي العائلية ، كما كانت من قبل ، ومن حين آخر أعود لمناقشة أبي في الموضوع ، فيطلب تأجيل البت فيه بضعة أسابيع أخرى ، وهكذا .. حتى مضت ثلاث سنوات كاملة ، عرف خلالها والدا فتاتي بموقف أبي وأمي بالطبع ، وتألما له كثيراً ، وطلبا من ابنتهما أن تقطع علاقتها بي ؛ لكيلا تغريني هي بالخروج على طاعة أبي ، وهو ما لا يقبلان به ، ولكن فتاتي تمسكت بي بالصبر والأمل ، ورجت أبويها ألا يحرماها من مهلة أخيرة ، ستقبل بعدها بأي خاطب لها إرضاء لهما !

ورجعت إلى أبي مرة أخرى ، وأبلغته أن موقفي قد أصبح حرجاً للغاية مع أسرة فتاتي ، التي رفضت أكثر من خطيب تقدم لها ، وأمام صديقي القديم ، الذي بدأ يتحدث معي عن أنني لا أرضى لأختي بمثل ما تتعرض له أخته ، وبكيت وأنا أقول لأبي إنني لا أريد أن أخرج عن طاعته ؛ لأنه أبي الذي يحبني وأحبه ، والذي ظّلل حياتنا طوال العمر بالحب والعطف والعطاء ، ولكني لا أستطيع في الوقت نفسه أن أتخلى عن حبي ، ولا أريد الارتباط بأي فتاة أخرى فماذا أفعل ..وماذا يريدني أن أمضي إليه ؟

وتأثر أبي بدموعي ، وقال لي دامعاً إنه ما دامت هذه هي رغبتي وسعادتي ، فإنه يترك لي الخيار .. وكل ما يرجوه هو أن أمهله ثلاثة أسابيع فقط ؛ لإنهاء بعض الشئون ، قبل أن يتوجه معي لزيارة هذه الأسرة وقراءة الفاتحة .. ولم أتمالك نفسي ، حين قال ذلك .. فقبلت رأسه بفرحة طاغية ، وقبلني هو مهنئاً ومبتهجاً ، وحددنا معاً الموعد السعيد ، عند غروب أحد أيام الجمعة في شهر يناير الماضي ، وبشرت فتاتي بانفراج الأزمة ؛ فبكت حين أبلغتها بموافقة أبي وأمي على ارتباطنا ، ونهضت بانفعال وهي تقول لي إنها تحتاج إلى إعداد فستان لائق باستقبال أسرتي عند الحضور ، كأن موعد الزيارة بعد ساعات ، وليس بعد ثلاثة أسابيع .

واشترت بالفعل فستاناً جميلاً بمناسبة قراءة الفاتحة ، وقضينا وقتاً بهيجاً مع أسرتها ، وهي ترتب للموعد المرتقب باهتمام شديد ؛ حتى لقد سأل والد فتاتي ابنه أمامي ألا يستطيع تدبير أمر إعادة طلاء صالة الشقة على وجه السرعة خلال يومين أو ثلاثة ، وأجاب صديقي القديم بالإيجاب .. فتم طلاء الصالة خلال أيام ، وتمت أيضاً إعادة دهان باب الشقة من الخارج .. ليكون المكان لائقاً باستقبال أسرتي ، كما قالوا .

وسرَت في بيتنا نحن روح جديدة من البهجة والسرور ، وأبي يداعبني كل يوم بالكلام عن الحب والزواج ، وقبل اقتراب الموعد المرتقب بعشرة أيام فقط يا سيدي ، ذهبت فتاتي لزيارة شقيقتها المتزوجة في الحي نفسه للاستعانة بها في شراء بعض احتياجاتها ، وانتهت مما أرادت ، ثم ركبت الأتوبيس إلى المدينة ، فإذا بهذا الأتوبيس بالذات ، ومن بين آلاف العربات يهوي بكل ركابه في النهر في الحادث المشئوم ، الذي هز الجميع منذ بضعة شهور !…

رائج :   الوتر المقطوع ! .. رسالة من بريد الجمعة

هل تصدق هذا يا سيدي! هل تصدق ؟ وهل تصدق أنها من بين كل سيارات الأتوبيس التي تجري في الشوارع، لم تختر سوى هذا الأتوبيس اللعين؟ بل وإنها ركبت الأتوبيس في ذلك اليوم ، وهي التي تنفق نصف مرتبها على سيارات الأجرة!.

لقد قرأت لك ذات مرة كلمة ، تقول فيها إن بعض أحداث الحياة الغريبة ، يتردد الأدباء في أن يكتبوا مثلها في قصصهم ؛ حتى لا يتهمهم أحد بالمبالغة ..
فهل طرأ على بال أحد أن تكون فتاتي ، التي انتظرتني ثلاث سنوات ، ضحية لحدث من هذه الأحداث الغريبة ، التي لا يصدقها كثيرون ؟
لقد ظللت ثلاث سنوات ، أعيش على أمل واحد ، هو أن يترفق بي أبي ويبارك زواجي من هذه الفتاة ، فهل من العدل أن تنتهي قصتنا هذه النهاية البشعة ، بعد أن وافق أخيراً ؟

إنني لن أصف لك حال أسرة فتاتي بعد ما جرى ، أعانها الله وصبَّرها على مصابها ، كما أني لن أصف لك حالي حين تلقيت الخبر الصاعق ، ولا ما عانيته – ومازلت أعانيه- إلى الآن ، حتى وصف لي الطبيب دواء منوماً لأستطيع به النوم.. لن أصف لك ذلك لأنك تعرفه جيداً ، كما أني لم أكتب لك طالباً كلمة مواساة وإلا كنت طلبتها منذ وقع الحادث ، وإنما أريد أحدثك عن شيء غريب آخر يفسد على حياتي الآن ، أكثر مما فسدت ويضاعف من معاناتي ، وهو أنني قد وجدت نفسي فجأة أشعر بضيق مكتوم وخانق من أبي .. وبضيق أخف من أمي، وأتهمهما في قرارة نفسي بأنهما اللذان حرما هذه الفتاة وحرماني من السعادة التي كنا نستطيع أن ننعم بها ، لو لم يكونا قد عارضا زواجي لمدة ثلاث سنوات كاملة !

ومع أني لم أصارح أبي بشيء من ذلك ولا أمي ، ولم أفعل شيئاً يترجم هذا الإحساس الغريب تجاههما ، إلا أن أبي يحسه ، وينظر إلي من حين لآخر بإشفاق وخوف ، كأنما يريد أن يتأكد مما يشك فيه ، وقد بادرني – حين علم بالخبر لأول مرة – بأن ذكَّرني على الفور ، وهو مضطرب وحزين بأنه قد وافق على زواجي منها ، ولم يعاند للنهاية كما يفعل آباء آخرون ، ثم سألني باستحياء : أليس كذلك! أليس كذلك !! ورغم إعيائي وحزني الشديد ، شعرت بالإشفاق عليه ، وهو يكاد يستجديني كلمة تطمئنه إلا أني لا أحمل له ضغينة بسبب موقفه السابق من زواجي.

ولكنه منذ ذلك الحين يا سيدي ، قام سدٌّ خفي بيني وبينه ، فأصبحت أجد نفسي دائماً ، عازفاً عن الحديث والمسامرة معه كعادتي قبل ذلك ، كما أصبحت أيضاً قليل الكلام مع أمي إلى حد الندرة ، رغم أنها بكت طويلاً من أجلي وأجل فتاتي.
وأنا الآن أعيش حياة خالية من كل معنى ، وليس فيها سوى الخواء والجفاء الصامت مع كل من حولي ، وقد أصبحت ضيق الصدر باستمرار ، ومكتئباً وصامتاً ، وأبي ينظر إلي “بخوف” من حين لآخر ، ويكاد يقسم لي أنه لم يفعل شيئاً إلاواجبه كأب يريد لابنه كل الخير .

أما أمي فهي تتودد إلي بطريقة مبالغ فيها ، وقد بات كل همها الآن هو أن تؤكد لي بطريقة غير مباشرة – في كل مناسبة- أن الأعمار بيد الله وحده سبحانه ، وأنني لو كنت قد تزوجت فتاتي هذه منذ أول عام ، لم يكن الأجل ليتأخر عنها لحظة واحدة ، وأن كل ما كان سيتغير ، هو أنني كنت سأواجه الحياة كأرمل شاب مع طفل ؛ مما يصعِّب من أمر زواجي بعد ذلك ، فما أن أسمع أي إشارة من هذا النوع ، حتى أغادر البيت غاضباً .

إنني لست معترضاً على قضاء الله وقدره ؛ لأنني إنسان مؤمن ، ولكني تعيس للغاية بفقدي لسعادتي ، التي انتظرتها ثلاث سنوات ، وتعيس أكثر بما طرأ على مشاعري تجاه أبي وأمي ، وأشعر بالذنب والإثم تجاههما ، كما أني أيضاً تعيس بهذا الجفاء الصامت ، الذي حل بيننا منذ شهور ، وأريد أن أكسر هذا الحاجز ، وأعود كما كنت ابناً باراً بأبيه وأمه وشقيقتيه ، ويحبهم أشد الحب …فماذا أفعل يا سيدي ، لكي أرجع كذلك ، وبماذا تنصحني ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أثارت رسالتك المؤلمة هذه تأملاتي وأشجاني يا صديقي . ومع أنني لا أريد أن ألمس الجراح التي لم تندمل بعد .. إلا أنني رغم ذلك لا أستطيع أن أمنع نفسي من تأمل هذه المفارقة الغريبة من مفارقات الحياة ، وهي أن تأتينا السعادة أحياناً ، وقد أوشكت السفينة على مغادرة الميناء ، فلا نكاد نبتهج لها حتى يفجعنا صفير الرحيل.

بل ولماذا يكون شأن بعضنا مع الحياة كشأن هذه الطفلة الصغيرة ، التي نُقشت هذه العبارة على لوحة ذكراها في رواية ” عالم صوفيا ” للأديب النرويجي جاردنر : ماري الصغيرة .. هلَّت علينا .. ضحكت لنا .. ثم رحلت عنا !
إنها قصة قديمة .. والزمن – كما يقول المثل البرتغالي القديم – لا يرحم الأشخاص الذين لا يؤدون المهام المرجوة منهم في وقتها الملائم .

وفي مغزى هذا المثل قد تجسد التفسير الذي تبحث عنه لما تشعر به الآن من ضيق مكتوم تجاه أبويك ، وعزوف عن الحديث إليهما والتسامر معهما ، كما كنت تفعل من قبل .
فأنت للأسف يا صديقي تلوم أبويك في أعماقك ، على أنهما لم يؤديا المهام المرجوة منهما في الوقت الملائم ! وتلوم نفسك – في الوقت ذاته – لأنك تنطوي لهما على هذه المشاعر السلبية ، على الرغم من حسن نيتهما دائماً تجاهك ، وحرصهما عليك طوال الوقت ، وأنت الضحية الطبيعية لهذا الصراع النفسي داخلك ،

بين مشاعرك السوية الأصيلة تجاه أبويك كإبن بار بهما وإحساسك الديني الحميد بالنفور من كل ما يسيء إليهما من جانبك ، وبين هذه المشاعر السلبية العارضة التي تسللت إليك في غمرة ضعفك النفسي بعد المأساة ، ولابد أن يثمر مثل هذا الصراع العنيف ما تشعر به الآن من ضيق واكتئاب وفتور تجاه كل شيء ، وميل للصمت وكتمان المشاعر . غير أن الحوار المنطقي الهادئ مع النفس قد يكشف للإنسان – في كثير من الأحيان – خطأ بعض أفكاره ؛ فيؤدي به ذلك إلى تعديلها ، وتصحيح بعض مواقفه تجاه الآخرين وتجاه الحياة .

رائج :   ابتسامة الرضا ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

فالإنسان حين يشتد به كربه ، قد يتلفت حوله أحياناً ، يتلمس طرفاً خارجيّاً يلقي عليه باللوم ، ويحمله مسئولية تعاسته واكتئابه ..ولأن والديك قد راوداك طويلاً على أن تتخلى عن هذه الفتاة الطيبة ، ولم يسلما لك بحقك في الارتباط بها ، إلا قبيل رحيلها المأساوي بوقت قصير ، فلقد اتهمتهما – في عقلك الباطن – بأنهما المسئولان ، بلا جدال ، عن تأخير سعادة هذه الفتاة وسعادتك معهما إلى اللحظة قبيل الأخيرة .

ولأنك إنسان مؤمن بربك ، وتخشى غضبه وتسلم بقضائه وقدره ، فربما تكون قد فضلت أن يكون أبواك المسئولين عن وأد هذه السعادة الموعودة قبل أن تكتمل ؛ لإنكارك الديني المفهوم أن تتوجه بهذه “المسئولية” إلى طرف آخر تجفل من لومه ، وهو الأقدار الحزينة . ولهذا فظني هو أن لومك لأبويك ، هو في الواقع عملية “تحويل نفسي” للمسئولية من طرف تجفل من التفكير فيه بوازع ديني محمود ، إلى طرف آخر بشري ، قد يؤلمك أن تتهمه أيضاً ، ولكن محاذير لومه لا ترتفع بك إلى المشارف الخطيرة الأخرى التي تشفق على نفسك منها .

والحق أنه لا أباك ولا أمك .. هما المسئولان عن حرمانك من فتاتك ، ولا حرمانها هي من السعادة الموعودة ، وإنما هي الأقدار المقدرة على الجميع من قبل أن يجيئوا إلى الحياة ، فإذا كان أبواك قد حجبا عنك موافقتهما على ارتباطك بفتاتك في البداية .. فلقد كانت دوافعهما إلى ذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها – دوافع الحب لك والحرص على ما يريان فيه خيرك وصالحك ، ودوافع الاعتزاز بك وطلب الأفضل في تصورهما لك ، وكلها دوافع نبيلة حتى لو أخطأت التقدير في بعض الأحيان .

ورغم نبل الدوافع .. فلقد عدلا عن موقفهما في النهاية ، وأكبرا فيك برك بهما وحرصك على ألا تخرج على طاعتهما ، وتنازلا عما تصوراه اعتبارات عائلية واجتماعية مهمة بالنسبة إليهما إرضاءً لك وطلباً لسعادتك على النحو الذي تراه أنت فإذا كانت الأقدار قد ترصدت فتاتك بعد ذلك ،ووأدت حلمها وحلمك في السعادة الوشيكة يا صديقي ، فما ذنب أبويك في ذلك .. وما ذنب أي إنسان آخر فيه ؟؟

لقد عقدا عزمهما في النهاية على مباركة ارتباطك بها ، وأحسب أنهما كانا صادقين في ذلك ، بعد أن استشعرا عمق ارتباطك بهذه الفتاة ، وعمق إخلاصها لك وتمسكها بك ، فلا لوم عليهما إذن في قصر عمر السعادة ، ولا في الأحلام الموءودة ، فهو قدرك وقدر هذه الفتاة الطيبة التلقائية ، الصادقة مع نفسها ، المبرأة من كل لؤم أو إدعاء .
ولقد كان مقدوراً لها أن تغزو أيضاً قلب أبويك وشقيقتيك ، لو أمهلتها الأيام أن تدخل دنيا أسرتك ، كما كان الأرجح أيضاً أن يستعيد والدك نفسه ، ويسعد صادقاً بمصاهرة ذلك التاجر الطيب ، الذي كان لا يعسر عليه في اقتضاء دينه عنده في بداية زواجه .

ولقد كان المحتمل أن يحدث ذلك بالفعل ، حين يرجع والدك إلى موطن الذكريات .. وأرض الكفاح مع صعوبات البداية ، ويتنفس أجوائها القديمة؛ فالمعدن طيب أيضاً ، رغم ذلك التطلع العارض للمستوى “الأعلى” بدليل تسليمه لك برغبتك في النهاية ، وتأثره بدموعك إلى حد أن يدمع لها وابتهاجه الصادق بفرحتك وبقرب تحقق الآمال ، ومداعباته السعيدة لك قبيل الموعد المرتقب .

وكل ذلك لا يستطيع أب أن يفتعله ، إذا كان قد استجاب لرغبة الابن رغماً عنه أو لمجرد ألا يقطع خيوطه معه .
لقد تنازل الرجل صادقاً عن كل تحفاظاته السابقة .. وربما يكون قد استسخفها أيضاً ، ورأى – وهو الذي نعم بحياة زوجية مثالية مع من أحبها وأحبته – أن السعادة هي الأهم في الحياة الزوجية ؛ خاصة وأن الفوارق الاجتماعية شبه هامشية ، والجذور الاجتماعية واحدة بين الأسرتين .

أفلا يشفع له ذلك عندك في أن تعفيه أنت من كل لوم ، أو لا يرق قلبك له ،وهو ينظر إليك “بخوف” مشفقاً عليك ، وعلى نفسه من مظنة لومه على ما لا حيلة له ، أو لأحد غيره فيه ، إنه أب عطوف وبار بك يا صديقي ، كما أنت بار به ؛ حتى ولو كان قد استغرق وقتاً أطول من المطلوب ، قبل أن يسلم لك برغبتك في هذه الفتاة ، فلا تضاعف من تعاستك الأساسية بمعاناة التمزق بين مشاعرك كابن بار بأبيه وأسرته ، وبين مشاعر الحنق المكتوم عليه وعلى والدتك ، بوهم مسئوليتهما عن قصر عمر السعادة التي أتيحت لك ولفتاتك .

ولا تكتم هذه المشاعر السلبية في صدرك ، متصوراً أن إنكارها بدافع الخجل منها كفيل بالقضاء عليها بعد حين ، فلا إنكارها ولا كتمانها سوف يقضيان عليها ، وإنما سوف يعمقانها ويرسبانها في عقلك الباطن ، فتنعكس على سلوكك من حيث لا تدري وعلى حياتك .

بل لعلي أنصحك – بلا حرج – أن تناقش هذه المشاعر نفسها مع أبيك وأمك بغير تعارض بين احترامك وحبك لهما ، وبين ذلك .. فلسوف تتخلص من كثير من بخارك المكتوم ، حين تعترف لأبيك بأنك قد “ظننت ” في غمار أحزانك على فتاتك ، أنه “ربما يكون” المسئول هو ووالدتك عما تعانيه الآن من حسرة ؛ لعدم الارتباط بهذه الفتاة قبل رحيلها بعام أو عامين ، ولعدم إسعادك لها قبل الرحيل ، فيشرح لك والداك نفسيهما بصدق ويتقبلان مصارحتك لهما بقبول حسن ؛ لأنها خطوة صحية على طريق العلاقة السليمة بين الطرفين ، بدلاً من انطوائك على مثل هذه المشاعر المؤلمة تجاههما ، وسعيهما الحائر لإبراء ذمتهما أمامك بطريق غير مباشر .

والمكاشفة في النهاية هي طريق التفاهم والاعتراف بالأخطاء السابقة ، وتعديل الأفكار والمواقف ، على عكس الكتمان الذي يفيد دائماً موقف الإدانة المسبقة بغير منح الطرف “المدان ” حق الدفاع المشروع عن نفسه .

ولقد يخفف عنك أيضاً بعض أحزانك أن تعلم أن فتاتك الطيبة قد لقيت وجه ربها ، وهي سعيدة بقرب تحقق آمالها فيمن أحبته وتمنته لنفسها منذ اللقاء الأول .. ولرب أيام قليلة من السعادة الحقيقية الخالية من الكدر ، أفضل كثيراً من عمرطويل من التعاسة والشقاء والحرمان ، ففكر دائماً في فتاتك على أنها قد رحلت عن الحياة ، وقلبها سعيد ومبتهج بقرب تحقق الآمال .. ففي ذلك بعض العزاء … نعم في ذلك بعض العزاء .. وشكراً .

Related Articles