من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
قرأت قصة القلوب المغلقة للزوجة الشابة التي قاطعها أهلها بعد زواجها ممن أحبت, بالرغم من أنها لم تخرج عن طاعتهم ولم تتزوجه رغما عنهم, وإنما فقط لأنهم لم يكونوا راضين عن اختيارها, ولأن زواجها قد نجح وأثمر, وتعيش سعيدة مع زوجها المحب, علي خلاف توقعات أمها لها بالفشل والخيبة, فكان أن أغلقوا قلوبهم في وجهها, رغم محاولاتها المستميتة لاسترضائهم, ومحافظتها علي صلة الرحم بهم, وإلي الحد الذي مرضت فيه الزوجة بالمرض الخطير ودخلت المستشفي لإجراء جراحة خطيرة, وحين سارع زوجها بإبلاغ أهلها بذلك, لم ترق لها قلوبهم ورفضوا زيارتها في مرضها, وغادرت المستشفي بعد الجراحة باكية لقسوة قلوب الأهل عليها, وكتبت تشكو إليك وتتساءل عما جنت لكي تستحق هذا العقاب القاسي من أمها وأخيها وأختها,
ولقد أثارت هذه الرسالة أحزاني.. ودفعتني لأن أروي لك قصتي لتكون الوجه الآخر لمثل هذه القصة المحزنة, فأنا شاب أبلغ من العمر36 سنة وقد نشأت في أسرة متراحمة ومتعاونة, وتزوج أخي الأكبر واستقل بحياته, وتزوجت شقيقاتي من رجال فضلاء الواحدة بعد الأخري وسعدن بحياتهن..
وبقيت وحدي مع أمي وعملت بعد انتهاء دراستي مشرفا تنفيذيا لأعمال المرافق والطرق بإحدي شركات المقاولات ورضيت عن حياتي, ومنذ ثلاث سنوات كنت أمارس عملي في أحد الطرق فجاءت من خلفي سيارة نقل محملة بالصخور وصدمتني في رأسي صدمة شديدة وداست علي جسدي ذهابا وإيابا.. وصرخ العاملون معي وهرولوا لنقلي إلي أحد المستشفيات الحكومية, فرفض المستشفي قبولي.. فحملوني إلي أحد المستشفيات الخاصة ودفعوا سبعة آلاف جنيه.. وكنت في غيبوبة ومصابا بكسر في الحوض وكسر في فقرات الظهر وكسر بالفخذ وآخر بمفصله, والأمل ضعيف في نجاتي من الحادث البشع..
لكن إرادة الله العلي القدير كانت فوق كل شيء ـ وأفقت من الغيبوبة بعد 12 يوما وبعد أن يئس الكثيرون من خروجي منها.. لكني أصبت بفقدان مؤقت للذاكرة من أثر الصدمة في رأسي وفتحت عيني بعد الغيبوبة فوجدت كل الأحباء حولي.. ورأيت أمي وشقيقاتي وأزواجهن.. وتوالت الأيام واستعدت ذاكرتي وعرفت ما فعله معي أهلي لإعادتي إلي الحياة.. فقد أجريت لي ثلاث جراحات متتالية وتم تركيب ثلاث شرائح من البلاتين لي وثمانية عشر مسمارا, وبلغت مصاريف المستشفي والجراحات 42 ألفا من الجنيهات.. فتكاتفت أمي وأخي وشقيقاتي كلهم في تدبيرها بما يشبه الملحمة,
وضحت أمي الموظفة بإحدي الوزارات منذ36 عاما بشقاء عمرها كله وما ادخرته من عملها طوال هذه السنوات وما كانت قد أعدته لكي تؤدي به فريضة الحج وبكل ما كان أبي ـ رحمه الله ـ قد أدخره قبل أن يلقي وجه ربه, وقدمته للمستشفي وعرض أخي الأكبر شقته للبيع دون اعتراض من زوجته معرضا نفسه وأبناءه وزوجته للتشرد لكي يسدد مصاريف المستشفي وقدمت شقيقاتي لأمي كل ما أدخرنه هن وأزواجهن للمساهمة في نفقات الجراحات والعلاج.
والحمد لله فلقد تماثلت الآن للشفاء بنسبة60% مما أعطاني القدرة البسيطة علي العمل ورجعت إلي أحضان الأهل الأحباء الذين ضحوا من أجلي بالغالي والرخيص وإذا كنت مازلت أعاني ضعفا في الأعصاب, ومن عاهة مستديمة في المشي فعزائي هو عطاء أمي وأخي وشقيقاتي لي وتضحيات زوجة الأخ وأزواج الشقيقات ومسارعتهم إلي تقديم ما تملكه أيديهم بنفوس راضية أكرمهم الله جميعا وأرجو الله سبحانه وتعالي أن يتم علي شفاءه, وأن يعينني علي العمل والكسب لكي أرد أفضالهم جميعا, وأكون عونا لهم في الشدائد كما كانوا عونا لي بحق في المحنة.
وهذا هو الوجه الآخر للأهل الذي دفعتني رسالة القلوب المغلقة لأن أكتب لك عنه, إذ أنني أتعجب من أصحاب هذه القلوب الحجرية كيف يعلمون أن لهم ابنة أو أختا في المستشفي ولا يقفون بجوارها ولا يساندونها في محنتها وقد أوصانا الله سبحانه وتعالي ورسوله الأمين صلوات الله عليه وسلامه بصلة الرحم, وأني أنتهز هذه الفرصة لأشكر زوج كاتبة رسالة القلوب المغلقة علي شهامته وأصله الطيب ووقوفه إلي جوار زوجته ومواساته لها في محنتها وبكائه لآلامها, وأدعو لها الله سبحانه وتعالي بتمام الشفاء, ولها ولزوجها بالستر في الدنيا والآخرة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
ما ترويه لنا عن تكاتف الأهل معك ووقوفهم إلي جوارك في محنتك يشدون أزرك ويقدمون لك كل ما تملكه أيديهم من عطاء وتضحيات كريمة. إنما هو الوجه الصحيح للأهل الأقربين وذوي الرحم من الأمهات والأخوة والشقيقات, كما أراد لهم الله سبحانه وتعالي أن يكونوا وبما غرس فيهم من فطرة رحيمة يذويهم,
فإذا كانت والدتك قد ضحت بكل غال ورخيص لإنقاذك, وعرض أخوك شقته للبيع راضيا بغير اعتراض من زوجته لكي يسهم في تحمل تكاليف جراحاتك وساهمت الشقيقات بكل ما ادخرن وادخر أزواجهن الفضلاء للإسهام في علاجك.
فلقد وافقوا بذلك فطرة الله السليمة فيهم, ولسوف يعوضهم الله سبحانه وتعالي عما بذلوه لك فضلا عميما وخيرا كثيرا في قادم الأيام بإذن الله, ولسوف تكون أنت عونا لهم ومعينا في مواقف الحياة المختلفة إن شاء الله. وإذا كان أصحاب القلوب المغلقة قد قست قلوبهم علي ابنتهم في أشد أوقاتها احتياجا لذوي رحمها, فلقد خالفوا بذلك ما غرسه الله سبحانه وتعالي في الأهل الأقربين من الرحمة والتعاطف والعطاء لذوي الرحم.
وإن عناء الحياة ليتضاعف حين يخالف البشر فطرة ربهم فيهم, وأن خيرية الحياة لتتعمق وتتأكد بأمثال أهلك وذوي رحمك من الفضلاء, ولسوف تكون أنت بما اختبرتك به الأيام ممن يؤكدون خيرية الحياة ووجهها الصحيح ويحاصرون مساحة القبح والشرور التي يزرعها فيها أمثال أصحاب هذه القلوب المغلقة..
مع تمنياتي لك بأن يتم الله سبحانه وتعالي نعمته عليك ويعجل لك الشفاء من كل آثار هذا الحادث الأليم لتواصل رحلتك الخيرة في الحياة, وترد لكل ذي فضل فضله حبا وعطاء وتراحما معه إن شاء الله.