قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || حرف الألف

عاش (بشارة) عمره كله رجلًا شريفًا بمعنى الكلمة، فهو لم يخالف القانون قط، ولم يتجاوز حتى إشارة مرور واحدة، على الرغم من انه لا يمتلك أبدًا سيارة ، أو حتى يحلم بامتلاك واحدة ..

وكعادة كل الشرفاء، كان (بشارة) يتعامل مع الجميع في ثقة وبساطة، دون أن يفكر حتى ف مجرد الشك في مخلوق واحد، حتى أنه قد اقتنع على الفور بحديث ابن عمه (سلماوي)، العائد من إحدى دول النفط، وصدق أن (سلماوي) كان يرفل في النعيم هناك، على الرغم من تلك التشققات الواضحة في يديّ هذا الأخير، وعلى الرغم من التحول الشديد الذي اعتراه، والذي بدا واضحا منذ عودته، وقرر (بشارة) أن يفعل مثل ابن عمه، وأن يسافر إلى واحدة من دول النفط، وبكل حماس، حمل كل ما يملكه من أوراق ومستندات، واتجه إلى إدارة الجوازات لاستخراج جواز سفر، كمرحلة أولى ..

وهنا بدأت المشكلة ..
والواقع أن المشكلة الحقيقة قد بدأت مع مولد (بشارة) .. فعندما ذهب والده الحاج(إبراهيم سليم) ليسجل اسمه في كشف المواليد، استقبله كاتب الوحدة الصحية للقرية بابتسامة واسعة، وهنأه على مولوده البكريّ، وطالبه بحلاوة كبيرة ثم اخرج قلمه، وارتدى نظارته، وراح يكتب اسم المولود (بشارة إبرهيم سليم).
لا ليس هناك خطأ مطبعي مني .. لقد كتبه الكاتب نصف المتعلم، هكذا بالفعل، بدون حرف الألف بين حرفيّ (الراء ) و(الهاء) في اسم (إبراهيم)….
والعجيب أن لم ينتبه أحد إلى هذا الخطأ في حينها ……
ربما لان الحاج (إبراهيم) أُميّ، لا يقرأ ولا يكتب، أو لأن العين تعبر الاسم في سرعة مكتفية بالتأكد من اسم المولود فحسب ..

المهم أن شهادة ميلاد (بشارة) خلت من حرف الألف هذا..
وعندما التحق (بشارة) بمدرسة التجارة الثانوية، وبلغ من العمر ستة عشر عاما بالتمام والكمال، ذهب في زهو إلى سكرتير المدرسة، حاملًا أوراق طلب أول بطاقة شخصية في حياته.. لما كان قانون المدرسة ـ حينذاك _يشترط أن يملأ السكرتير الأوراق بنفسه، دون أن ينتبه إلى الألف الناقصة، في اسم والده الحاج (إبراهيم)..

هكذا صار اسم (بشارة ) في بطاقته الشخصية يحمل حرف الألف… وفى منطقة التجنيد، حيث تم توقيع الكشف الطبي على (بشارة)، لتحديد موقفه من التجنيد الإجباري، وجد الأطباء أن عين ( بشارة ) اليسرى تحمل حولًا ظاهرًا ، فمنحوه شهادة إعفاء من التجنيد، وكانت تحمل حرف الألف، نظرًا لاستخراج بياناتها كلها من واقع البطاقة الشخصية له طبقا للقانون..

ونجح (بشارة )، ونال شهادة دبلوم التجارة، وتسلم الشهادة المذهبة من المدرسة في فخر، وأحاطها بإطار مذهب، وعلقها في صدر ردهة المنزل، دون أن ينتبه إلى أنها لا تحمل حرف الألف في منتصف اسم والده الحاج (إبراهيم)، كما نقل كاتبها الاسم من واقع شهادة الميلاد ..

وعندما ذهب (بشارة )لاستخراج جواز السفر، طلبوا منه هذه الشهادات الأربعة ..
شهادة الميلاد، وبطاقته الشخصية، وشهادة الخدمة العسكرية، وشهادة الدبلوم.
ورفضوا استخراج الجواز ..

رفضوا بحجة أن الأوراق غير مطابقة، فشهادتا الميلاد والدبلوم لا تحملان حرف الألف، وبطاقته وشهادة الخدمة العسكرية تحملان الحرف ..
وعبثًا حاول (بشارة) أن يشرح الأمر لأى مسئول ..
وعبثًا حاول أن يجد من يستمع إليه ..
أو من يفهمه..

وقابلته في كل مرة إجابة صارمة لا تتغير:إما أن يحذف الحرف من بطاقته وشهادة الخدمة العسكرية ، أو يضيفه إلى الشهادتين الأُخريين…..
ودار (بشارة) في ساقية الروتين ..
دار حتى حفيت قدماه .. واتضح له ـ لأول مرة ـ كم هو عسير هذا الروتين ..
وأصابه اليأس ..
انه يحتاج إلى عام على الأقل، ليضيف حرف الألف، أو يحذفه .. 
لحظتها كره حرف الألف .. بل كل حروف اللغة.. 
وبينما يجلس ذات ليلة يائسًا، في القهوة التي اعتاد قضاء لياليه فيها ، التقى به ابن عمه (سلماوي)، فراح يفرغ إليه شكواه.

ووجد (سلماوي) الحل على الفور، ولكن ( بشارة) اعترض عليه في البداية بشدة، ثم لم تلبث معارضته أن تخاذلت وتلاشت، فاصطحبه (سلماوي) إلى صديق له، واشتروا وهم في طريقهم قلم جاف وزجاجة من زجاجات الحبر الصيني ..

 

رائج :   الاتجاه المعاكس .. رسالة من بريد الجمعة

رائج :   قصة التلميذ الذي لم تكن تحبه معلمته

وسافر ( بشارة) إلى بلاد النفط بعدها بأسبوع واحد ..
وهو يعمل هناك منذ أربعة أعوام ..
وكل أوراقه تحمل حرف الألف ..
كلها …

________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ العدد رقم 1 ـ النبوءة)

Related Articles