قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || طارق

كان لقاؤنا عجيبا كالمعتاد ..
كنت أهم بركوب سيارتي ، بعد أن ودعت منذ لحظات صديق عزيز ، حملته الطائرة إلى واحدة من بلدان النفط ، عندما لمحت (محمد) ، وهو يهم بركوب سيارته ، التي تجاور سيارتي ، في ساحة الانتظار الضخة ، بميناء القاهرة الجوي الجديد ، فوجدت نفسي أهتف بكل اللهفة والسعادة :
ــ (محمد) ! .. يا لها من مصادفة !

رفع الرجل عينيه إلى في حيرة ، وبدا لحظات وكأنني قد أيقظته من شرود عميق ، قبل أن يهتف في حرارة :
ــ أنت ؟!.. يا لها من مفاجأة!

تعانقنا في حرارة ، بكل شوق ولهفة اللقاء ، بعد غياب دام أكثر من عشرين عاما ، منذ غادر (محمد) (مصر) لآخر مرة ، في طريقه للعمل في (ألمانيا) ، التي استقر فيها طيلة هذه الأعوام ، دون أن نلتقي مرة واحدة ، وإن كنت قد تابعت أخباره ، وعلمت أنه قد أنجب شابا وفتاة ، من زوجته الألمانية الجميلة ، التي تختلف كثيرا عن ملامحنا المصرية المعروفة..

وبكل الحرارة ، سألته :
ــ كيف حالك يا رجــل؟ .. متى عدت ؟ .. وما الذي تفعله هنا ؟
أطلق من أعماق صدره زفرة حارة ، وهو يقول :
ــ كنت أودع ابني (طارق) ، وهو في طريق عودته إلى (ألمــانيا).
أنبأتني زفرته وملامحه أنه يعانى توترا شديدا ، فقلت في اهتمام :
ــ ألمح قصة مثيرة ، خلف هذا الانفعال.

ابتسم ابتسامة باهتة ، وهو يقول :
ــ آه .. نسيت أنك كاتب قصصي ، ولكنني أراهنك أن قصتي ستثير سخط ودهشة قرائك ، وأنهم سيتهمونك بالمبالغة الشديدة ، لو كتبتها كما حدثت تماما.
أثارت عبارته فضولي في شدة ، فقلت :
ــ أظنك لن تبخل برواية قصتك على مسامعي.
أطلق زفرة حارة أخري ، وقال :
ــ على العكس .. إنني أحتاج إلى من أقص قصتي علي مسامعه.

تركنا سيارتينا في موقف سيارات المطار ، واصطحبته إلى (كافيتريا) المطار ، حيث بدأ يروي :
ــ مشكلتي هي أن لي ولدا نصف ألماني ، يبلغ من العمر ثمانية عشر عام ، لم يزر (مصر) سوي مرة واحدة قبل هذه المرة ، وكان ــ آنذاك ــ في الثالثة عشرة من عمره ، وكنت قد استخرجت له جواز سفر مصري ، من سفارتنا في (ألمانيا) وقضي هنا إجازة ممتعة ، عاد بعدها إلى (ألمانـيا) سعيدا راضيا.
سألته في حيرة :
ــ وما المشكلة في هذا ؟

أكمل في توتر :
ــ المشكلة نشـأت في زيارته هذه المرة ، بعد خمسة أعوام من زيارته الأولي ، فلقد أراد ابني (طارق) ، الذي يعجز تماما عن التحدث بالعربية ، أن يزور (مصر) مع صديق له ، في أثناء وجودي هنا في إجازة طويلة ، وأراد أن يزهو بكونه مصريا ، فحضر إلي هنا بجواز سفره المصري ، علي الرغم من أنه يملك جوازا ألمانيا ، وحضر معه زميله الألماني بجواز سفر ألماني بالطبع ن ولم يكد الاثنان يصلان إلي (القاهرة)
حتى بدأت مشكلة (طارق).

ازدرد لعابه في صوبة ، وتابع في انفعال :
ــ لقد أنهى صديقه الألماني إجراءاته في دقائق معدودة ، وبقي (طارق) ساعة كاملة ، ورجال الأمن يرمقونه بنظرات الشك ، ويستجوبونه على نحو عنيف ، وقد استنكروا تماما جهله باللغة العربية ، وهو يحمل جواز سفر مصري ، واسم عربي تماما.
قلت في خفوت :
ــ أعتقد أن هذا حقهم.
رمقني بنظرة حادة ، وقال :
ــ ربما .. المهم أنهم في النهاية قد سمحوا له بالدخول ، بعد أن حذروه من أن تاريخ جواز سفره قد انتهى ، وأنه من الضروري أن يحصل على جواز سفر جديد ، حتى يمكنه العودة إلي (ألمـانيا) حيث أنه من المحتم أن يسافر بجواز سفر مصري ، مادام قد دخل إلي البلاد بواسطة جواز سفر مصري .. وتصور هو أن استخراج جواز السفر أمر بسيط ، مادام يحمل رسميا الجنسية المصرية ، بحكم كونه ابني ، وأخبرني بكل بساطة بالأمر ، مع ضرورة عودته إلي (ألمـانيا) خلال أسبوع واحد ، حيث سيبدأ فصله الدراسي الجديد.

زفر مرة ثالثة بحرارة أكثر ، وهو يضيف :
ــ وهنا بدأت المشكلة الحقة.

اعتدلت أسأله في اهتمام حقيقي:
ــ لماذا ؟ .. ماذا حدث ؟

قال ومرارة الأيام السابقة لا تزال تملأ حلقه وكلماته :
ــ ذهبت لاستخراج جواز سفر جديد لــ (طارق ) ، فأخبروني أن الأوراق المطلوبة تتضمن تحديد موقفه من التجنيد الإجباري ، حيث أنه قد تجاوز أعوامه الثمانية عشرة ، وأرسلوني إلي قسم الشرطة لاستخراج ما يثبت موقفه من التجنيد ، فأخبرني الموظف المختص هنــاك أنه لن يمكننا تحديد موقفه من التجنيد ؛ لأنه لم يسجل ضمن مواليد الناحية ، ولم يحن دوره للخضوع للكشف الطبي في منطقة التجنيد بعد ، ولم تستخرج له حتى بطاقة طلب التجنيد البيضاء.

سألته في لهفة :
ــ وماذا فعلت ؟

قال في توتر :
ــلجأت إلي أحد معارفي ، من أصدقاء وزير الدفاع ، وحصلنا من الوزير مشكورا على أمر باستثناء (طارق) من موعد الكشف الطبي التقليدي ، واستخرجنا له بطاقة بيضاء استثنائيا ، وتصورت أن المشكلة قد انتهت ، فأسرعت عائدا إلي موظف التجنيد بالقسم ، ولكنه أخبرني أنه مادام (طارق) وحيد والديه ، فسنحتاج إلي استمارة خاصة تثبت ذلك ، علي أن يقوم بتوقيعها شيخ الحارة.

قلت في دهشة :
ــ شيخ الحارة ؟! .. أما زال لدينا شيوخ حارات ؟.. لقد كان هذا ضروريا في الماضي ، عندما لم يكن هناك الكثيرون ممن يحملون بطاقات هوية شخصية ، وكأن الأمر يحتاج إلي شيخ الحارة ، لتعرف الأشخاص ، ولكنني كنت أظن أنه لم تعد هناك حاجة لوجوده ، ونحن علي مشارف القرن الحادي والعشرين.

مط شفتيه ، قائلا :
ــ أنا أيضا كنت أتصور هــذا ، حتى أنني لم أفهم في البداية ما يقصده موظف التجنيد هذا ، وحتى بعد أن فهمت ، عجزت تماما عن ترجمة منصب (شيخ الحارة) هذا لابني (طارق) فلا يوجد شبيه لهذه المهنة العجيبة في العالم كله.

ابتسمت علي الرغم منى ، وأنا أتصور محاولة شرح وظيفة (شيخ الحارة) ، لشاب يدرس الحساب بالكمبيوتر في (ألمــانيا) ، وقلت :
ــ وكيف تجاوزت هذه العقبة ؟

قال في ضيق :
ــ بحثنا عن شيخ الحارة هذا ، حتى عثرنا عليه في صعوبة ، وأخبرنا الرجل أننا نحتاج إلي ما يسمي بكشف عائلة وهو عبارة عن وثيقة تثبت أن (طارق) وحيد والديه وهذا يمنحه حق في الإعفاء من التجنيد الإجباري مؤقتا ، وأسرعت أبتاع استمارة كشف العائلة هذه من مكتب البريد ، ولكن واجهتنا عقبة رهيبة.

سألته :
ــ ما هي ؟

قال بصوت أقرب إلي البكاء : لابد أن تتطابق بيانات الاستمارة مع البيانات المدونة بالسجل المدني ، وهذا يتطلب أن تكون لنا بيانات أسرية بالسجل المدني ، علي الرغم من أننا نقيم طيلة عمرنا في (ألمـانيا) .

وزفر مرة أخري مردفا :
ــ وكان من المحتم أن أستخرج أنا بطاقة عائلية لتكون لنا بيانات أسرية في السجل المدني ، يمكن مطابقتها بما سيدون باستمارة كشف العائلة ..
ضحكت علي الرغم مني ، وأنا أقول :
ــ وماذا حدث ؟

ابتسم في مرارة ، قائلا :
ــ استخرجت بطاقة عائلية ، وذهبنا إلي شيخ الحارة مرة أخري ، فأعد لنا استمارة كشف العائلة ، وأسرعنا بها إلي منطقة التجنيد ، مع الاستثناء الوزاري الخاص ، ليتم توقيع الكشف الطبي على (طارق) ، ونجحنا في اجتياز هذه العقبة بحمد الله ، وحصلنا على شهادة الإعفاء المؤقت من التجنيد ، وأسرعنا نستخرج جواز السفر لــ (طارق) ، ووجدنا له مكانا علي طائرة الليلة لحسن الحظ ، حيث سيبدأ فصله الدراسي صباح الغد.

قلت مبتسما في ارتياح :
ــ حمدا لله.

لوح بيده قائلا :
ــ ولكن القصة لم تنته بعد.

سألته في دهشة :
ــ كيف ؟ .. ألم تقل إنكم قد أنهيتم كل شيء.

قال في مرارة :
ــ هذا ما تصورناه ، ولكن أحدهم أخبرني صباح اليوم فقط أنه من الضروري أن نحصل على إذن من مكتب التنظيم والإدارة ، للسماح لــ (طارق) بالسفر ، حتى ولو كان يحمل شهادة إعفاء مؤقت من التجنيد .. وأسرعت مع (طارق) إلي مكتب التنظيم والإدارة ، وواجهتنا كالمعتاد نظرات الشك والريبة ، مع ملامح (طارق) الألمـانية ، وجهله التام باللغة العربية ولكنهم منحونا إذن السفر ، وقبل أن نتسلمه في لهفة ، أصر الجندي المسئول علي أن يوقع (طارق) بالاستلام ، باللغة العربية ، وحاولت أن أقنعه بأن هذا مستحيل ؛ لأن (طارق) يجهل العربية تماما ، إلا أنه أصر بكل صلابة وصرامة.

قلت في حيرة :
ــ وكيف تجاوزت هذه العقبة ؟

قال في حدة :
ــ كتبت لــ (طارق) اسمه الكامل بالعربية ، وطلبت منه أن يرسمه كما هو ، في خانة التوقيع ، وفعل (طارق) هذا ، وهو يكاد يبكي غيظــا ، لذلك التعقيد الشديد في الإجراءات والخطوات ، وحمل تصريح السفر ، وبدا شديد العصبية ، يتعجل موعد السفر ، حتى وصلنا إلي المطار.

قلت في لهفة :
ــ وسافر ؟

زفر للمرة الألف ، قائلا :
ــ بعد عذاب طويل ، فلقد استوقفه رجال الأمن طويلا ، وراحوا يفحصون جواز سفره عشرات المرات ، ويستجوبونه في عنف ، وحجتهم هذه المرة مثيرة للحنق والسخرية معا.

سألته في لهفة :
ــ ما هي ؟

ضرب سطح المنضدة براحتيه ، وهو يقول في حدة :
ــ حجتهم هذه المرة ، هي أنه من المستحيل ــ في (مصر) بالذات ــ أن تتخذ كل هذه الإجراءات في أسبوع واحد ، وأن نجاحنا في هذا يجعل الأمر مثيرا للشك ، ولك أن تتصور دهشة (طارق) أمام هذا المنطق ، وهو الذي يعلم أن استخراج جواز السفر في (ألمــانيا) لا يستغرق أكثر من بضع ساعات ، مهما بلغت مشكلة استخراجه.

واكتست ملامحه بمرارة شديدة ، وهو يستطرد :
ــ وأكثر ما يؤلمني في هذا عبارة (طارق) الأخيرة ، قبل أن يستقل الطائرة ، فلقد أخبرني أنه ــ مع احترامه لي ــ لن يطأ أرض (مصر) بقدميه ، ما بقى له من العمر.

* * *

افترقنا بعد أن أفرغ (محمد) قصته وتوتره في أذني ، وتركني أحمل في عقلي تساؤلات شتي حول هذا الموقف ..
..
من المسئول عن كل هذا ؟

أهي تعقيدات الروتين في (مصر) ؟..

 

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || صديقتها

رائج :   مراحل جمع القرآن حتي وصلنا مقروءا و مسموعا!!!!!

أهي البيروقراطية ، أم هو تقصير (محمد) في تعليم ابنه لغة البلد الذي يحمل جنسيته ؟ ..

أهي مشكلة الإدارة في (مصر) ، أم مشكلة الانتماء المزدوج في أعماق (طارق) ؟

صدقوني ، لم أجد جوابا شافيا حتى هذه اللحظة ..

هل أجده لديكم ؟ ..
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة : “أعجب ما في هذه القصة أن جميع وقائعها حقيقية مائة في المائة ، لذا فلم أجد أمامي سوي أن أهديها إلى بطلها الحقيقي الذي لم ألتق به أبدا من قبل .. إلى (طارق) “

____
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ المندوب وقصص أخرى ـ رقم 6)

Related Articles