قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الولد

لم يسعني، وأنا ابتاع جريدة الصباح، من بائع الصحف المجاور لمنزلي، إلا أن ألقى نظرة طويلة على الأستاذ (علوي) ، أستاذ اللغة العربية السابق، وجاري القديم في مسكني، وهو يحمل كمية هائلة من الصحف، كعادته منذ أسبوعين كاملين، ثم يتخذ مجلسه في ذلك المقهى المواجه للمنزل، ويقلب صفحات الصحف في اهتمام يملك عليه كل حواسه، وهو يبحث فيها عن اسم ابنه الوحيد ..
أو عن اسمه هو في الواقع ..

وفي كل مرة أرى ذلك المشهد، كنت أعود بذاكرتي مرغمًا إلى تاريخ الأستاذ (علوي) القديم..
لقد تزوج الأستاذ (علوي) ـ كعادة الريفيين ـ وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره، وأنجب من زوجته ثلاث بنات، قبل أن يتخرج من كلية المعلمين، ويصبح معلما للغة العربية ..
ولكنه لم يكن يشعر بالسعادة ..

كان يتشوف دومًا إلى إنجاب ولد يحمل اسمه، وعلى الرقم من أنه لم يكن ثريًا، ولم تكن عائلته ذات ماضٍ عريق، يحتم ضرورة وجود من ينقل اسمها إلى الأجيال القادمة ..

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || ابني

ومن أجل هذه الرغبة، ترك الأستاذ علوي زوجته الريفية تواصل إنجاب البنات في قريتها، ونزح هو إلى (القاهرة)، ليعمل في مدرسة قريبة من منزلنا، ويتزوج قاهرية شابة، تصغره بعشرة أعوام..
وبدا الأستاذ (علوي) شديد الحنق، عندما أنجبت له هذه القاهرية ابنة جميلة، مما جعلني أسأله يومها:
ـ ألا تحب إنجاب البنات يا أستاذ (علوي)؟

أجابني في حنق:
ـ اربد ولدًا يحمل اسمي.
قلت ـ يومئذ ـ مبتسمًا:
ـ البنت ستحمل اسمك أيضًا.
لوح بكفه قائلًا:
ـ البنت لزوجها .. أما أبناء الابن، وأحفاده، فكلهم سيحملون اسمي أنا.
كنت أضحك لحديثه هذا وأتعجب له، فما زلت حتى اليوم أدهش لهذه النرجسية، التي تدفع الرجال إلى التلهف على إنجاب من يحملون أسماءهم، على الرغم من أن هذا لن ينفعهم أو يضيرهم بعد موتهم/ ورحيلهم عن دنيانا ..

ولكن الأستاذ (علوي) كان يتلهف لإنجاب ولد يحمل اسمه ..
ولقد حصل على مبتغاه ..
في المرة الثانية، أنجبت له زوجته ابنًا، جعله يطير فرحًا، ويدعو رواد المقهى كلهم لتناول المشروبات على نفقته ..
وبدا وكأن ذلك الابن قد أنساه الدنيا كلها، فلم يعد يزور زوجته الريفية في قريتها، ولم يعد يهتم بزوجته القاهرية..
أصبح ابنه (أشرف) هو حياته كلها..
وكان يفخر دومًا بأن (أشرف) يحمل اسمه، حتى أنه لم يكن يقدمه إلى أي مخلوق إلا باسمه الكامل .. (أشرف علوي) ..

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || حلم

وكبر (أشرف) ..
واقتنص (أشرف) كل الخير من أخواته..
كل الثياب الجديدة له ..
كل اللعب ..
كل النقود ..
ونشأ (أشرف) مدللًا، فلم يتجاوز سنواته الدراسية إلا في صعوبة بالغة، حتى استقر به المقام في الثانوية العامة ، فلم يفارقها أبدًا ..
ولم يهتم الأستاذ (علوي) بهذا كثيرًا ..
كان يكفيه أن (أشرف) يحمل اسمه ..
وأنه سبنقله إلى الأجيال القادمة ..

وفجأة ظهرت على (أشرف) علامات الثراء، وسرت شائعة بأنه يعمل في تجارة العملة، أو التهريب ..
ولكن الأستاذ (علوي) لم يهتم أيضًا ..
الاسم وحده كان يعنيه ..
وكان يفخر بابنه وثراء ابنه في كل المجالس ..
وفجأة طالعتنا صحف الصباح بخبر رهيب ..
لقد ألقى القبض على (أشرف) بتهمة التجسس لحساب دولة معادية ..

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || صديقتها

(أشرف) جاسوس !! ..
مفاجأة مذهلة للجميع ..
وبالذات للأستاذ (علوي) ..
لقد بدا ، في ذلك الصباح شاحبًا ممتقعًا، ذاهلًا .
وجلس على مقعده المعتاد في المقهى صامتًا واجمًا ..
ثم فجأة اندفع نحو بائع الصحف، وابتاع منه كل صحفه ..
وعاد إلى المقهى ..

وفي حزم، أخرج من جيبه ممحاة، وراح يمحو اسم (أشرف) من كل الصحف ..
كان يشعر بعار لا مثيل له؛ لأن الشاب الذي خان وطنه يحمل اسمه هو ..
ومنذ ذلك الحين، راح الأستاذ (علوي) يبتاع الصحف يوميًا، بقدر ما تسمح به ميزانيته، ويجلس على المقهى يتصفحها كلمة كلمة، ويمحو بممحاته أي اسم يشبه اسمه .. مجرد شبه ..

وفقد الرجل عقله ..
فقده بسبب ولد ..
ولد يحمل اسمه ..

مقالات ذات صلة