أوقفت دراجتي البخارية، وتحسّست تلك المدية الحادة في جيب سروالي الخلفي؛ لأطمئنّ إلى وجودها، ثم اتجهت إلى ذلك المتجر.. رمقني الشيخ بنظرة طويلة، خلت معها أنه سيستنكر قدومي في هذه الساعة، لشراء هدية عيد ميلاد، إلا أنه لم يلبث أن قال في هدوء:
– لقد جئت في الوقت المناسب.
أدهشتني بشدة عبارته، التي لا تتناسب فعلياً مع الوقت، ولكنه أضاف، وهو يشير بابتسامة باهتة، إلى كومة ألعاب، غير متراصة بعناية:
– لقد كنت أجري جرداً لمجموعة ألعاب، سنقدّمها بتخفيض كبير، في حفل الافتتاح غداً.
أدركت عندئذ لماذا بقي الرجل في متجره، حتى هذه الساعة المتأخرة، فغمغمت في شيء من الخشونة، التي لم أتعمدها:
– هذا من حسن حظي.
عاد الشيخ يبتسم، ابتسامة أشد شحوباً من وجهه، وهو يغمغم:
– إنه قدرك.
كان حديثه عن حفل الافتتاح في الغد، قد أصابني ببعض الإحباط؛ نظراً لأن هذا سيعني خلو خزينته من النقود..
ثم إنه ما من لص يحترم نفسه، يمكن أن يسرق كومة من الألعاب والدمى الفرائية السخيفة..
كنت أفكر في هذا، عندما سألني الشيخ الشاحب في اهتمام:
– أيها تفضّل؟
قالها، وهو يشير إلى الألعاب، التي لم أبالِ بها إطلاقاً، وأنا أقول:
– الواقع أنني كنت أفكّر في هدية أفضل.
رمقني الشيخ بنظرة طويلة أخرى، قبل أن يقول:
– قلت لك: إنه قدرك.
ثم أشار إلى الباب، الذي خرج منه، وهو يضيف:
– عندي في أسفل مجموعة جديدة، لم أنته من تصنيفها بعد، وبها لعبة إلكترونية رخيصة الثمن، ستروق لابن شقيقتك بالتأكيد.
أدرت ظهري له، وأنا أقول في ضجر:
– ربما في مناسبة أخرى.
كنت أهمّ بمغادرة المكان، عندما سمعته يقول، بنفس الهدوء الشاحب:
– فليكن.. سأعود إلى جرد الخزانة.
توقّفت مع سماع كلمة “الخزانة”، والتفتّ إليه، قائلاً:
– ولكن من يدري.. ربما أعجبتني تلك اللعبة الإلكترونية.. تقول إنها رخيصة الثمن.. أليس كذلك؟!
اتجه نحو ذلك الباب، وهو يقول في شحوب:
– انتظر.. سأحضرها لك.
كان من الواضح أنه سيهبط إلى حيث خزانة النقود، فقلت في سرعة، أخشى أنها قد شفّت عن لهفتي:
– لا ترهق نفسك.. سأهبط معك؛ لأراها بنفسي.
التفت إليّ الشيخ مبتسماً، وغمغم:
– ربما كان هذا أفضل.
كنت أشعر بأن أذنيّ تبذلان جهداً حقيقياً لسماعه؛ إذ كان يفتح شفتيه بالكاد، مع صوته الضعيف، فأسرعت إليه، قائلاً:
– نعم.. هذا أفضل بالتأكيد.
تقدّمني الرجل نحو الباب، الذي يقود إلى سلّم خشبي ضيق، هبطت فيه معه إلى قبو خافت الإضاءة، تفوح منه رائحة عطنة، توحي بأن يد النظافة لم تمتد إليه منذ زمن..
وعلى الضوء الخافت، شاهدت الخزانة..
خزانة معدنية كبيرة، يسيل لها لعاب أي لص محترف؛ ربما لأنها لا تستخدم إلا لحفظ كميات النقد الكبيرة، و..
وفجأة، انتبهت إلى ذلك الصبي..
كان صبياً شاحباً نحيلاً، يجلس صامتاً على مقعد قديم، في ركن القبو، ويبدو بائساً إلى حد كبير، وإن بدا الاهتمام في عينيه الواسعتين، وهو يتطلّع إلي بلا خوف، والشيخ يشير إليه، قائلاً:
– إنه حفيدي.. تصادف أن عيد مولده اليوم، فأتيت به من أجل هديته..
غمغمت، دون أن أرفع عينيّ عن الصبي:
– أهو مريض؟! إنه شاحب بشدة.
كان وجود الصبي يضايقني بالفعل، إذ إن الاستيلاء على النقود في الخزانة، سيضطرني للتخلّص منه مع جده..
وهذه أهم نقطة في مهنتي..
لا تترك خلفك شهوداً..
أبداً..
كاد جزءاً من ضميري يستيقظ، مع رؤية ذلك الصبي الشاحب النحيل، ولكنني أسرعت أخمده، بنظرة أخرى على الخزانة الكبيرة، والشيخ يقول:
– إنه فقط لم يتناول طعامه منذ فترة؛ فهو هنا منذ زمن طويل.
غمغمت بكلمات لا أذكرها، والشيخ يستطرد، مشيراً إلى كومة أخرى من الألعاب، على مقربة من الصبي:
– اللعبة هنا، ولكنها ستحتاج إلى بعض البحث.
تحسّست مديتي في تحفّز، وأنا أقول في خشونة:
– فيما بعد.
التفت إلي الشيخ بنظرة خاوية، فانتزعت مديتي، وشهرتها في وجهه، وأنا أقول:
– ما يشغلني الآن، هو محتويات تلك الخزانة.
كنت أتوّقع صراخاً أو ذعراً، ولكن الشيخ بدا هادئاً إلى حد عجيب، في حين ظل الصبي ساكناً في مقعده، فكرّرت في حدة:
– افتح الخزانة.
أطاعني الشيخ في استسلام عجيب لم أتوقعه، وهو يقول:
– لا بأس، ولكنك لن تجد بها ما تتوقّعه.
زمجرت، قائلاً:
– سأكتفي بما أجده.
استدار الشيخ في هدوء مستفز، وأنا ألوّح بمديتي، وفتح الخزانة، وهو يقول:
– ها هي ذي.
حدّقت في محتويات الخزانة بمنتهى الدهشة والتوتر، وأنا أهتف بلا وعي:
– ما هذا بالضبط؟!
وكان هذا آخر ما نطقت به..
فمع آخر العبارة، تلقيت ضربة قوية، على مؤخرة رأسي، و..
فقدت الوعي..
لست أدري كم بقيت فاقد الوعي، في ذلك القبو خافت الإضاءة، ولكنني عندما استيقظت، كنت مكمم الفم في إحكام، ويداي وقدماي مشدودة إلى قضيب معدني قوي، بأغلال فولاذية، جعلتني معلقاً أفقياً في الهواء..
وكان ذلك الشيخ الشاحب يقف مع حفيده الأكثر شحوباً، على قيد خطوات مني، وهو يبتسم تلك الابتسامة الهادئة..
لم أفهم ما يقوله، وحاولت قول أي شيء، ولكن تلك الكمامة القوية أخرستني تماماً.. وبعينين مذعورتين، شاهدت الشيخ يخرج مجموعة من السكاكين الطويلة، والسواطير الضخمة من الخزانة المعدنية الكبيرة، ويربّت على رأس حفيده في حنان، قائلاً:
– سيكون الطعام جاهزاً بعد قليل.
وفي هدوء، انحنى يشعل النار في موقد كبير أسفلي، وشعرت باللهب يحرق جسدي، وأنا عاجز عن الصراخ، في حين بدأ الشيخ يدير ذلك العمود المعدني القوي، وهو يربّت مرة أخرى على رأس حفيده، وقد ابتسم كلاهما، وظهرت أنيابهما الحادة الطويلة، الشبيهة بأنياب الذئاب، والشيخ يقول بكل الحنان لحفيده:
– عيد ميلاد سعيد.
وكان هذا آخر ما سمعته..
على الإطلاق.