انتفخت أوداج (مبروك) بك في زهو متغطرس، وهو يهبط من سيارته الفاخرة الكبيرة، التي يحمل ثمنها ستة أصفار دفعة واحدة، أمام ذلك المصنع الضخم، الذي يحمل اسمه الثلاثي، على لافتة هائلة مضيئة، يمكن رؤيتها من مسافة كيلومترات، لتعلن للعالم أجمع أنه صاحبه، وأنه واحد من سلسلة مصانع، انتشرت في البلاد من أقصاها إلى أقصاها، لتعلى من شأنه، وتعظم من قدره، لدى البلاد والعباد.
وكما يحدث في كل مرة تدافع مدراء مصنعه لاستقباله، ومصاحبته في موكب فخم أنيق، من باب المصنع، وحتى باب مكتبه، الذي يحتل وحده نصف طابق بأكمله.
ووفقًا لأوامر المديرين والرؤساء، تراص عمال المصنع وموظفوه على الجانبين، يهللون ويصفقون، احتفالًا بمقدم الكبير، الذي سار وسطهم في خيلاء طاووس يتقدمه كرشه الضخم، دون أن يلقي عليهم حتى نظرة ازدراء، وكأنما لا يشعر بوجودهم أو أهميتهم، ولم يشعر بها ولو لحظة واحدة في حياته ..
وفي سباق مضحك، أسرع الكل يفتحون أمامه باب مكتبه، الذي دخله بنفس الزهو والتعالي، ليجلس على ذلك المقعد الكبير الشبيه بعروش الملوك، والذي استورده خصيصًا من الخارج، لينعم بالجلوس عليه، وعلى أشباهه، في كل مصنع من مصانعه العديدة ..
وبعد أن استقر به المقام على عرشه، وتناول مشروبه الساخن، الذي يحمل اسم شركة أغذية عالمية شهيرة، دخلت إليه سكرتيراته الحسناوات، يحملن المراسلات والخطابات، والقرارات التي أصدرها من قبل، والتي تحتاج إلى توقيعه الكريم، لتصبح واجبة التنفيذ ..
وكعادته، راح (مبروك) بك يراجع كل ورقة وكل كلمة، ويفحص ويمحص كل طلب تقدم به عامل بسيط، لقرض أو علاوة تساعده على مواجهة شظف العيش والحياة ..
وفي صرامة غاضبة، جمع كل الطلبات والأوراق، واستدعى إليه كل مديريه ورؤساء أقسامه، وراح يلقي على مسامعهم تلك المحاضرة المعتادة الصارمة الغاضبة، حول بداياته، وكفاحه، وعصاميته، وكيف أنه قد تعب، وجاهد، وقاتل، حتى وصل إلى ما هو عليه، دون أن يطلب مساعدة، أو معاونة، أو يهدأ أو يستريح لحظة واحدة ..
وفي النهاية، ختم محاضرته التقليدية بإعلان رفضه لكل طلبات المساعدة، مع سماحة بأن يعمل العمال والموظفون ضعف ساعات العمل، مقابل أجر إضافي، يساعدهم على العيش، ومواجهة صعوبات الحياة.
وكالمعتاد أيضُا أثنى المدراء والرؤساء على سماحته، وعطفه، وطيبة قلبه، التي ساعدت الفقراء والمساكين في مصانعه، على إيجاد سبيل للعيش، ثم وعدوه بالضغط عليهم؛ليعملوا بثلاثة أضعاف طاقتهم، لو أنهم يرغبون في الاستمرار في العمل.. وإلا فالطرد هو نصيبهم منه، وبأسرع وسيلة ممكنة ..
ومرة أخرى، انتفخت أوداج (مبروك) بك، وامتلأت نفسه بالزهو والخيلاء، وتصور أنه بالفعل المحسن الكبير، صاحب القلب النقي والعطاء اللامتناهي، وبدأ يعد أوراقه للذهاب إلى الحج، للمرة السابعة عشر، حتى يرى الكل إيمانه وتقواه، ويدركون طهارته وسماحته ..
وبينما تأخذ أوراقه طريقها، راح هو ينتقل، من مصنع إلى مصنع، ومن شركة إلى أخرى، في إمبراطوريته الضخمة، حتى انتهى النهار، والمواكب الضخمة تصاحبه أينما ذهب، فعاد إلى منزله وجلس، وجلس يتحدث بعض الوقت مع زوجته، عن طمع عماله وموظفيه، الذين لا يملأ عيونهم إلا التراب، على الرغم من تعامله الرقيق الرحيم معهم، استمعت إليه المسكينة مستسلمة، وهي تتمنى أن يرهقه الحديث، فيتوقف عن ملء نفسها بالضجر والملل ..
ومن حسن حظها، أن الخدم أعدوا مائدة حافلة، اقبل عليها (مبروك) بك بنهم وشراهة، لا مثيل لهما، والتهم محتوياتها بلا رحمة أو شفقة، حتى بمعدته المسكينة، مما أخرسه تمامًا عن الحديث، ودفع زوجته إلى التطلع إليه بدهشة قلقة، وقد بدا لها أن حجم كرشه قد تضاعف مرتين على الأقل، خلال تلك الليلة وحدها ..
وانتهى العشاء، بزجاجة مياه غازية مثلجة، من الحجم العائلي، شربها (مبروك) بك وحده وحتى الثمالة، وألقى جسده بعدها على أريكة فاخرة ضخمة، يشاهد محطات الأقمار الصناعية، على شاشة هائلة، ملتصقة بالجدار، حتى لتبدو أشبه بإطار أنيق لصورة متحركة..
وبقيت زوجته بعض الوقت، حتى صارت عاجزة عن إبقاء جفنيها في موضعهما، فأوت إلى فراشها، ونامت ملء جفنيها حتى الصباح ..
أما (مبروك) بك نفسه، فقد واصل المشاهدة، حتى شعر فجأة باختناق عجيب، وهو يدخن سيجاره الهافاني الفاخر، وبتنميل شديد في كفه اليسرى، ثم زاغت عيناه، وأطبق ثقل هائل على صدره، منعه حتى من أن يصرخ مستنجدًا، وانتفض جسده مع كرشه الضخم انتفاضة واحدة ..
ثم هدأ كل شيء ..
وفي الصباح التالي، عثرت عليه زوجته ميتًا بأزمة قلبية حادة، أمام التلفاز الكبير، والسيجار الهافاني مازال مشتعلًا بين شفتيه ..
أما هو نفسه، فالعجيب أنه لم يدرك أنه قد مات ..
كل ما حدث هو أن الدنيا من حوله أصبحت أكثر حرارة، كما أن أجهزة التكييف قد توقفت عن العمل دفعة واحدة..
ثم وجد نفسه فجأة، أمام بوابة ضخمة، تصور أنها بوابة أحد مصانعه، فنفخ صدره، ونفش ريشه، وانتظر الموكب الذي سيصحبه إلى الداخل ..
وانفتحت البوابه، وخرجت منها مواكب عديدة ..
مواكب يطالبه أصحابها بكل ما حوَّله منهم، خلال حياته الحافلة ..
وعندئذ فقط، أدرك (مبروك) بك الموقف.
وأدرك أنه مات ..
وعرف طبيعة تلك البوابة الضخمة، التي ينبعث منها لفح اللهب، والتي سيعبرها مفلسًا، بعد أن يأخذ منه كل ذي حقٍ حقه ..
والأدهى أن كل هذا سيحدث ..
بلا موكب..