“حر الجبال ولا بردها”
عبارة سمعتها لأول مرة، في قلب صعيد مصر، وأنا أقضي فترة التكليف الإجبارية هناك، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين
سمعتها وأنا أكاد أذوب، من فرط حرارة الجو، في منتصف يوليو.. وفي سخرية، واجهت قائلاً: أي برد هذا؟ منذ جئت إلى هنا، لم أشعر بلمحة واحدة من البرد، فالحرارة تكاد تبلغ الأربعين، في منتصف الليل، ناهيك عن النهار
تطلع إليّ الشيخ إبراهيم، صاحب قطعة الأرض التي أقيمت عليها الوحدة الصحية، وكأنه لا يفهم ما أقوله، ثم قال في حماس: انتظر حتى يأتي الشتاء، وستنعكس الصورة تماماً
لم أستطع تصديق هذا أبداً، في مناخ تحديت أحد أصدقائي بشأنه يوماً، فقمت بقلي بيضة طازجة، على سوء الوحدة الصحية، بحرارة الشمس وحدها، في منتصف نهاره
ثم جاء الشتاء
ووجدت نفسي أرتجف
وأرتجف..
وأرتجف..
درجات الحرارة انخفضت إلى حد رهيب، حتى كادت أناملي تتجمد في قلب الليل، ولم أعد أستطيع النهوض من تحت الغطاء إلا لأسباب بالغة الأهمية، أو لحالات حرجة للغاية
وفي ذلك المناخ الرهيب، قابلتها
سعدية..
امرأة من فئة يقال لها الحلبية، تنتمي على الأرجح إلى قبائل الغجر، وتقوم مع قريناتها بخدمة أثرياء القرية، والقيام بأعمالهم الوضيعة، وعلى رأسها حلب الأبقار، في ساعات الفجر الأولى، وربما من هنا جاءت تسمية الحلبية
كانت عقارب الساعة قد تجاوزت منتصف الليل ببضع دقائق عندما سمعت دقات باب سكني الخاص، في الوحدة الصحية
وعلى عكس ما اعتدته، كانت الدقات رقيقة هادئة، تحمل لمحة من خجل خاص، يمكنني إدراكه بحكم خبرتي
وعلى الرغم من أنها كانت ليلة بالغة البرودة، لم أشعر بأدنى لمحة من البرد.. على عكس المعتاد وأنا أخرج من تحت الغطاء، وأقترب من الباب، متسائلاً في همس ربما ارتبط برقة الدقات: من بالباب؟
أتاني صوتها، أشبه بغناء رخيم عذب، وهي تنطق اسمها: سعدية
لم أكن قد سمعت الاسم من قبل قط، منذ بدأت في الصعيد، ولكنني لم أكد أسمعها تنطقه بتلك الرقة، انتابني فضول شديد لرؤيتها، فأسرعت أفتح الباب، وأتطلع إليها في لهفة، تحت ضوء القمر
ويالجمال ما رأيت
كانت فاتنة، بكل ما تحمله الكلمة من معان
سمراء، رقيقة، هادئة الملامح، لها شفتان مكتنزتان، وعينان سوداوان واسعتان، تعلوهما رموش من أبداع ما رأيت، وترتدي ذلك الزي البدوي المزركش، الذي يميز فئة الحلبة
لم أكن قد رأيتها من قبل قط، أو لمحت مثل هذا الجمال، أو تصورت حتى إمكانية وجوده هناك. مما جعلني أحدق فيها بدهشة، أصابتها بخجل واضح، فخفضت عينيها وهي تغمغم: عندي ألم في معدتي
لم أدرِ ماذا فعلت أنا بالتحديد، أو لست أذكر التفاصيل، إلا أنني حتماً قمت بالكشف عليها، وشعرت بدفء جسدها الصغير، قبل أن أقول في اهتمام: هناك اشتباه في الإصابة بالتهاب الزائدة الدودية
سألتني في رقة بالغة: وما هذه الزائدة؟
أجبتها مبتسماً: جزء من جسدنا، مازال يصر على إيلامنا في أوقات لا نتوقعها
سألتني: وكيف نعالجه؟
التقطت ورقة من أوراق العيادة، لتحويلها إلى أحد المستشفيات في المدينة، وأنا أجيب: هذا يحتاج إلى عملية جراحية
انتفض جسدها وهي تقول في ارتياع: عملية جراحية؟!… أتعني أنهم سيشقون بطني
قلت محاولاً التهوين في الأمر: إنه مجرد شق صغير، والعملية بسيطة، و
قاطعتني في صرامة: لا
ونهضت ترتدي ملابسها في حزم، فقلت في قلق: ولكن العملية حتمية، و
قاطعتني في صرامة أكثر: قلت لا
اقتربت منها، وقد هالني أن يتطور الأمر معها، لمجرد خوفها من إجراء جراحة بسيطة، وقلت: اسمعيني يا سعدية… حالتك شديدة، والعملية الجراحية ضرورة
هزت رأسها في قوة، وقالت: نحن لا نجري أية عمليات جراحية
غمغمت: حتى البسيطة منها؟
التفتت إليّ بعينين مغرورتين بالدموع، وهي تغمغم: أنت لا تدري ما ستفعله العملية الجراحية
سألتها في خوف: وماذا تتوقعين أن تفعله؟
أجابتني، والدموع تنهمر من عينها: ستقتلني
هتفت مستنكراً: تقتلك؟!…. مستحيل يا سعدية… لم نسمع قط عن مريض قتلته عملية زائدة بسيطة
تطلعت إليّ، وقد غرقت عيناها الواسعتان في بحر من الدموع، وغمغمت قبل أن تعدو نحو باب الوحدة: ستسمع قريباً
اختفت من امامي فهرعت خلفها، أهتف: سعدية… انتظري… المفترض أن
في هذه المرة كنت أنا من قاطعت نفسي، أو بمعنى أدق، بترت عبارتي قبل أن تكتمل
فقد اختفت سعدية..
اختفت بمعنى الكلمة..
لم أدرِ أين ذهبت بالضبط بهذه السرعة، فربما غابت وسط الأشجار المحيطة بالمكان، أو دارت حول الوحدة، أو تلاشى ثوبها الأسود وسط ظلام الليل
المهم أنها قد اختفت
ولما كان من العبث، والمستحيل أيضاً، أن أعدو خلفها، دون أن أعلم أين ذهبت بالضبط فلم أجد أمامي سوى الصعود إلى سكني.. والنوم
والعجيب أنني نمت بعمق
بعمق شديد للغاية
نمت، ربما كما لم أنم، منذ بدأت العمل هنا
وفي اليوم التالي، كانت إجازتي تبدأ، فسافرت عائداً إلى بلدتي، وحاولت أن أنسى هناك كل شيء عن سعدية، والزائدة الدودية لها
وربما نسيت..
أو تناسيت..
المهم أنني قضيت إجازتي، وعدت بعدها إلى عملي في الصعيد، منتعشاً، هادئاً
وما أن صدمني تيار الهواء البارد، حتى استعدت كل شيء
برد الجبال..
وكلامها..
وليلها الطويل..
وسعدية..
في أول ساعة لوصولي، أردت أن أسأل عن أحوالها، وعما أصاب زائدتها الدودية، ولكنني أحجمت عن هذا، لأنه من الخطر في ريف الصعيد، أن يسأل رجل عن امرأة
أية امرأة..
وليومين أو ثلاثة… حاولت نسيانها، عبر الانهماك في العمل
ولعلي أفلحت..
ولكن بعد منتصف ليل اليوم الرابع بدقائق قليلة، سمعت دقاتها الرقيقة، على باب سكني
وبقفزة واحدة، أصبحت عند الباب
وفتحته
وكانت مفاجأة
لم يكن هناك أحد عند الباب
فاجأني هذا ولاشك، فوقفت أحدق في الفراغ بمنتهى الدهشة، وأتساءل في حيرة، ترى هل سمعت دقاتها الرقيقة على الباب بالفعل، أم أنني تمنيت هذا فحسب؟
أمن الممكن أن أكون قد سمعت الدقات لرغبتي فيها؟
أمن المعقول هذا؟
مددت رأسي أتطلع يميناً ويساراً، بحثاً عنها، ولكن المكان كان خالياً تماماً، فعدت إلى فراشي، وأنا أهمس باسمها دون وعي، وما أن دخلت تحت الغطاء، حتى سمعت دقاتها مرة أخرى
وهذه المرة سمعتها بمنتهى الوضوح
ووثبت نحو الباب
وفتحته بحركة واحدة
ورأيتها
كانت تقف هناك، بسمارها، ورقتها، وعينيها الواسعتين
وبكل رقتها، غمغمت: أشعر بألم في بطني
قلت في حنان:كلانا يعلم ما يعنيه هذا
تجاهلت قولي تماماً، وهبطت إلى حيث حجرة الكشف الطبي
وبلا وعي، وجدت نفسي أتابعها في انبهار، وهي تهبط درجات السلم في رقة ونعومة، كما لو أنها ملاك جميل
ولحقت بها إلى حجرة الكشف
ودون أن أنتبه، أعدنا كل ما حدث في المرة السابقة
وعندما نهضت، قلت: هذه المرة، أنا مصر على ذهابك للمستشفى
سألتني في بساطة: ولماذا؟
أجبتها بسرعة: تحتاجين إلى إجراء عملية جراحية
قالت في حدة:لا… نحن لا نجري عمليات جراحية
قلت في ضيق: هل سنكرر الأمر؟
اغرورقت عيناها بالدموع مرة أخرى، وغمغمت:إنك لا تعرف ما ستفعله بي العملية الجراحية
قلت في حدة: لا داعي للكلام الفارغ.. هذا النوع من العمليات الجراحية البسيطة، لا يمكن
قاطعتني في استمرار، وكأنها لا تسمعني: ستقتلني
رأيت عينيها الغارقتين في الدموع، فتجمدت الكلمات على شفتي، ولم أحاول قول أي شيء إضافي، في حين اندفعت هي نحو الباب
واختفت..
تماماً كما حدث في المرة السابقة، كما لو أننا نعيد المشهد السابق
ولهذا لم يدهشني ألا أجدها في الخارج
فقط عدت إلى فراشي
ونمت..
وبمنتهى العمق..
كان توافقاً مدهشاً، لم أنتبه إليه، حتى فى المرة الثانية
فمنذ بدأت العمل في الصعيد، لم أنم بهذا العمق، إلا في الليالي التي تأتي فيها سعدية
ولقد أتت سبع مرات متتالية..
وفي كل مرة، كانت الأمور تسير على النسق نفسه..
دقات رقيقة
حوار قصير
كشف طبي
اقتراح بعملية جراحية
رفض..
وهروب..
واختفاء..
كل مرة بنفس الترتيب..
ونفس الأحداث..
وربما نفس الحوار..
وبين كل مرة وأخرى، تختفي سعدية لأسبوع كامل
على الأقل
وفي كل مرة، أشعر بقلق عارم عليها
ولا أنام..
ثم تأتي..
وأراها..
وأنام بعمق
بمنتهى منتهى العمق..
وبعد المرة السابعة، اختفت سعدية تماماً
مر أسبوع..
وثان..
وثالث..
ورابع..
ولم تظهر سعدية قط..
ولم يعد باستطاعتي الاحتمال، أو حتى مراعاة القواعد، لذا فقد استيقظت ذات صباح، وقد قررت أن أسأل عنها، مهما كان سيؤدي إليه هذا
وفي لهفة، هبطت إلى العيادة، وانتهزت أول فرصة، لأسأل عم شعبان، تومرجي العيادة:هل تعرف حلبية اسمها سعدية؟
بدت عليه علامات التفكير، قبل أن يجيب:الاسم شائع بينهم، أية سعدية منهم تقصد بالضبط؟
أجيبه في حذر:إنها امرأة شابة، في أواخر العشرينات من العمر
مط شفتيه، مغمغما:لا يمكنني تذكرها… ولكن ربما تجيبك فهيمة
وفهيمة هذه كانت خادمة الوحدة، تتواجد معظم الوقت، وتقوم بكل العمل تقريباً
ولكنها امرأة
وستدرك حتماً حتماً لهفتي
لذا كان لابد أن أضع خطة، للسؤال عن سعدية
في البداية، بدأت أسألها عن أخريات
ثم أخريات
طرحت عدة أسماء، زارت العيادة من قبل، ثم التقطت نفساً طويلاً، وسألتها:وسعدية كيف… حالها؟
التفتت إليّ في دهشة، متسائلة: أية سعدية؟
أشحت بوجهي، حتي تعجز عن قراءة انفعالاتي، وأنا أجيب بصوت خرج على الرغم مني مختنقاً: سعدية الحلبية
لم أسمع جوابها لدقيقة كاملة، فالتفت إليها؛ لأجدها تحدق فيّ بمنتهى الدهشة، على نحو جعلني أسألها: ألا تعرفينها؟
وهنا نفضت رأسها، قائلة:بل أعرفها، ولكنني أتساءل: كيف عرفتها أنت؟
قلت في توتر:أعرف أنها تعاني من التهاب في الزائدة الدودية
هتفت: وهذا أيضاً تعرفه؟