من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
ترددت طويلا قبل الكتابة إليك, فأنا زوجة وأم لأربعة ابناء, كل اثنين منهما توءم, وقد سافر زوجي للعمل بإحدي الدول العربية بعد زواجنا باربع سنوات, ولحقت به بعد قليل ونشأ الأبناء في بلاد الغربة وكبروا حتي بلغ التوءم الكبيران سن17 عاما
وفي يوم مشئوم صدمت سيارة مسرعة أحدهما أمام أخيه صدمة قاتلة أدت الي وفاته ـ رحمه الله ـ بعد قليل.. وخيم علي حياة اسرتنا التي كانت سعيدة من قبل الحزن والاكتئاب وتحطم الأبناء نفسيا, أما الابن الذي فقد توءمه امام عينيه فلقد راح في غيبوبة تامة استمرت لمدة شهر كامل, وحين أفاق من غيبوبته اصيب بانهيار عصبي شديد وقمنا بادخاله مصحة نفسية في لندن عولج فيها لفترة ثم غادرها ليستكمل دراسته, ونصحنا الأطباء بألا يرجع للدراسة في البلد الذي شهد مصرع اخيه فيه, لكيلا تذكره الشواهد والأماكن بما حدث,
فقرر والده إرساله للإقامة مع جده وجدته في مصر فيعيش بينهما ويلتحق بجامعة مصرية, وسافر ابني بالفعل الي مصر ـ وأقام مع جديه بالمدينة الساحلية, والتحق بجامعة مرتفعة الرسوم الدراسية, وانتظم في الدراسة ونجح في عامه الأول بتفوق فاطمأن قلبي عليه, وانتهي العام الدراسي وجاء لزيارتنا في البلد العربي وسعدنا به ورجع في نهاية الإجازة الدراسية.. وفي عامه الجامعي الثاني طلب منا ان نشتري له سيارة من احدث طراز وهاتفا محمولا, كما طلب ايضا ان يستقل بحياته في مسكن مفروش بدلا من الاقامة مع جديه,
واستجبنا لكل ماطلب واستأجرنا له شقة مفروشة واشترينا له سيارة جميلة ليذهب بها الي جامعته وهاتفا محمولا, واستمر كعادته في الاتصال بنا تليفونيا في الأسبوع اكثر من مرة, ثم بدأت اتصالاته بنا تتباعد حتي أصبحت مرة كل شهر وأحيانا كل شهرين, واذا عاتبناه في ذلك اعتذر بانشغاله.. أو قال لنا انه لم يعد طفلا ولا مبرر للقلق عليه وجاء الصيف ولم يحضر ابني لزيارتنا في البلد الذي نقيم فيه,
وسألت عنه بعض أصدقائه الذين يدرسون معه في نفس الجامعة بمصر وجاءوا في الصيف لزيارة أسرهم في البلد العربي, فإذا بي أعرف منهم أنه قد أجل امتحانه الي الصيف, وبدأ القلق يساورني عليه وقررت العودة الي مصر بمفردي للاطمئنان عليه وركبت الطائرة الي القاهرة, ثم القطار الي المدينة الساحلية وأنا اتخيل كيف سيكون وقع المفاجأة السعيدة عليه حين اطرق باب مسكنه ويفتحه لي ويراني أمامه.. فتتملكه الدهشة.. ثم يضحك بسعادة ويندفع نحوي ويحتضني ويقبلني عدة مرات..
ثم وصلت سيارة الأجرة التي ركبتها من محطة القطار الي العمارة التي يستأجر إحدي شققها.. وغادرتها ودخلت العمارة فلاحظت ان البواب والجالسين معه ينظرون إلي نظرة غير مريحة فاقتربت من البواب وسألته عما اذا كان ابني في شقته ام لا, وذهلت حين فوجئت به ينفجر بكم هائل من كلمات السباب والشتائم الجارحة لهذا الولد المستهتر الذي اسأل عنه وعن اهله الذين لم يحسنوا تربيته إلخ,
ووقفت ذاهلة وقد تضرج وجهي بالإحمرار وألجمت لساني فلم اقل له إنني أمه وصعدت الي الشقة وضغطت الجرس ففتحت لي الباب فتاة ترتدي فستانا يظهر من جسمها اكثر مما يستره.. ووجدت نفسي ادفعها الي الداخل.. وادخل الشقة منادية ابني فلا يأتي.. وانما يجيء شاب آخر يقول لي في برود إنه صديق لابني وانه في مشوار قريب وسيعود علي الفور, ثم يصطحب تلك الفتاة وينصرف! وبقيت وحدي في الشقة انتظر مجئ ابني وأنا في أشد الضيق والألم..
ثم سمعت صرير المفتاح في الباب فتطلعت إليه وأنا أكبح انفعالاتي لكي أستقبل ابني الذي لم أره منذ حوالي العام, فإذا به يدخل ومعه فتاة وهما يتضاحكان ويتعابثان بلا حياء فما أن رآني جالسة في الأنتريه حتي تجهم وسألني بجفاء غريب عما جاء بي؟
وأجبته وأنا في غاية الحرج والضيق بأنني قد اشتقت لرؤيته وصدمت صدمة قاسية حين أجابني بنفس الجفاء الغريب بأنه لم يشعر تجاهي بمثل هذا الشوق وبالتالي فلم يكن هناك داع لحضوري وتجشمي مشقة السفر!
وشعرت بسخونة شديدة تصعد الي رأسي.. وخيل إلي أنني أري شبحه وهو يتكلم مع الفتاة.. ويطلب منها الانصراف علي موعد آخر للقاء.. ثم بدأ ضباب ابيض يغشي عيني.. وخيل إلي أنني أسمع اصواتا ترن في أذني بشدة.. ثم اغمضت عيني, ولم أشعر بشيء بعد ذلك.
وأفقت بعد وقت لاأدريه فوجدت نفسي في احد المستشفيات, وهناك محلول معلق فوق رأسي.. ووالد زوجي ووالدته يجلسان الي جوار فراشي, وابني يقف امامي جامد الوجه, وأمضيت في المستشفي يومين جاء خلالهما زوجي من السفر وسألني عما حدث فلم أصارحه بشئ مما وقع وقلت له إنني شعرت فقط بهبوط مفاجئ لاأدري له سببا وقد يكون بسبب السن, ولم أشعر بأنه قد صدقني, وانتهي علاجي وغادرنا المستشفي الي مسكن ابني الذي لم يكلف نفسه حتي كلمة ترحيب واحدة بأبيه وشقيقيه اللذين جاءا معه.
وانتحي زوجي بابني في غرفته وراح يتحدث إليه ويضغط عليه لكي يصارحه بكل شيء.. وكان قد سمع من البواب أكثر مما سمعته أنا.. فجادله الابن لبعض الوقت فصفعه ابوه لأول مرة في حياته فإذا به ينفجر كالبركان الثائر ويقول لأبيه إننا ـ أي والده ووالدته ـ السبب فيما آل إليه حاله.. لأننا لو كنا أهله حقا لما كنا تركناه وحده في هذه المدينة الساحلية وبقينا نحن بعيدا عنه في البلد العربي, أما ونحن لم نفعل ذلك فإننا لسنا بالنسبة إليه سوي مصدر للمال فقط!
وصدم زوجي صدمة شديدة وشعر بالحزن والاكتئاب وجلسنا معا نراجع حياتنا.. ونفتش عن الخطأ الذي ارتكبناه وأدي بنا الي هذه الحال وزوجي رجل بار بأبويه ـ وأنا ابنة بارة بأبويها.. فهل هذا ياسيدي هو ثمن الغربة الذي ندفعه بعد أن تكبدنا ماتكبدناه طوال السنين لتوفير الحياة الكريمة لأبنائنا.. وهل هذه المكافأة التي يقدمها الابن لأبويه بعد هذا العناء؟!
إنني أرجو أن تكتب إليه لكي يرجع الي أحضان امه التي تفتقده.
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
كنت أحسب ياسيدتي انك ستطلبين مني ان أكتب إليه راجيا له ان يفيق من غيه ويرجع الي رشده ويتوقف عن العبث والاستهتار ويلتزم بالنهج القويم في حياته, فإذا بك لاترجين منه سوي ان يعود الي احضان امه التي تفتقده ويكف عن مجافاتها وجفاف مشاعره تجاهها حتي ولو استمر في الطريق الشائك الذي يسير فيه.
ومع تقديري التام لمشاعرك كأم وحزنك لمجافاة هذا الابن الضال لك فإني أقول لك إنه ليس بمثل هذا الضعف العاطفي الزائد يمكن استعادته الي الطريق القويم أو إعانته علي استعادة سابق تفوقه الدراسي والتزامه الأخلاقي. بل إن تركيزك علي هذا المطلب العاطفي وحده وهو العودة الي أحضان الأم المتلهفة عليه دون بقية المطالب الأخري, إنما يكشف لنا عن واحد من أهم أسباب شروده واندفاعه الي الطريق الخاطئ في الحياة, وهو الحنو الزائد علي الابن ظالما ومظلوما, ومايستتبعه ذلك من الاستجابة المطلقة لكل رغباته بلا مراجعة ولا مناقشة, وكما لو كانت إرادة سامية واجبة النفاذ بمجرد التعبير عنها.
إنني أقدر لكم حرصكم علي إعانة هذا الابن علي امره بعد المحنة القاسية التي تعرض لها بمصرع توءمه أمام عينيه وما تلا ذلك من انهياره عصبيا وعلاجه لفترة في المصحة, كما اقدر لكم استجابتكم لنصيحة الأطباء بابعاده عن موطن الأحزان الذي شهد مأساة فقد اخيه لكيلا تنبه الأماكن والشوارع التي شهدت مرحهما من قبل أحزانه وتجدد اضطرابه النفسي, واعرف كذلك أن فقد التوءم يصيب توأمه الباقي علي قيد الحياة بشرخ غائر حتي الأعماق ويترك علي شخصيته بصمات قد لايمحوها الزمن,
لكن الاستجابة لنصيحة الأطباء قد جاءت مشوبة بالخطأ وقصر النظر من جانبكم للأسف, ذلك لأن الاستجابة المثلي لها إنما كانت تتطلب ألا ينفصل هذا الابن عنكم وهو علي ماهو عليه من الضعف النفسي الذي يرشحه للانحراف عن الطريق القويم عند أول منعطف, وان يكون العلاج الصحيح هو عودتكم جميعا الي بلدكم واجتماع شملكم فيه تحت مظلة واحدة الي أن ينهي دراسته الجامعية ويضع أقدامه علي أول الطريق, أو عودة الأم للإقامة مع ابنها لفترة مؤقتة إذا تعذر عليكم الاكتفاء من الغربة بما يقرب من عشرين سنة.. والعودة النهائية للاستقرار في الوطن,
فإذا لم يكن هذا ولاذاك فلربما كانت اضرار أستمرار هذا الابن مع اسرته في موطن الأحزان نفسه أقل وطأة من اضرار عودته وحيدا لبلده وانفراده بنفسه في مسكن مفروش بلا رقيب عليه ولا حسيب, كما كان الحد الأدني من الأمان النفسي والاجتماعي له هو ألا تستجيبا لرغبته في الاستقلال بحياته عن جديه والإقامة في مسكن خاص به.. لأن النية كانت واضحة في التحرر من قيود الحياة في مسكن الجد.. ورقابته له.
ثم جاء إغداقكم المال عليه واستجابتكم لكل مطالبه.. مع افتقاده رقابة الأهل عليه, واهتزازه النفسي من اثر مصرع اخيه امامه لكي ييسر له كل ذلك طريق الأشواك الذي مضي إليه, ولاعجب في ذلك والشاعر العربي يقول
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
فاذا قلت لك الآن إن مجرد عودته الي أحضانك مع استمرار اوضاعه علي ماهي عليه لن تغير من أمره شيئا فلست أعدو الحقيقة كثيرا.
واذا قلت لك ايضا انه لاجدوي من استجداء مشاعره تجاهك بعد كل ماأبداه من جفاء قاتل لك ولكل أفراد أسرته فإني أيضا لاأكون قد ابتعدت كثيرا عن الحق والمنطق.
فالأمر يتطلب منك قدرا عاقلا من التماسك امام ضعفك العاطفي تجاه هذا الابن خلال التعامل معه كما يتطلب منك ومن زوجك أن تتعاملا معه, من الناحية المادية باعتدال حكيم ييسر له الحياة الكريمة ولكن بغير شطط يغريه بالخطأ أو ييسره له.
وحبذا لو ارغمتماه علي العودة للإقامة بين جديه والتخلص من هذه الشقة المفروشة, رضي عن ذلك أو سخط والي ان ينتهي من دراسته, ثم فليفعل بحياته بعد ذلك مايشاء, أما اذا حزمتما امركما ذات يوم وقررتما جمع شمل الأسرة كلها تحت سقف واحد حماية لهذا الابن من مزيد من الشرود, فإن استعاده ابن ضال الي الطريق القويم وحمايته من الفشل الدراسي تستحق مثل التضحية المادية التي تصبح ضرورية ولو علي حساب الاعتبارات الأخري في بعض الأحيان, فمن أقوال السيد المسيح عليه السلام مامعناه: إذا كان لرجل مائة شاة وضلت إحداها ألا يترك التسع والتسعين الأخري فوق الجبل لكي يبحث عن هذه الضالة.
وهذه الشاة إذا وجدها بعثت في نفسه فرحا أعظم مما تبعثه التسع والتسعون الأخري التي لم تضل قط!
والسلام