تاريخ

الحرب العالمية الأولى .. الجزء الخامس || الحصار

أنباء التفوق الألمانى على صعيد كل الجبهات كانت تنتشر فى أوروبا و العالم .. نعم ألمانيا خسرت كل مستعمراتها تقريباً بالخارج و أيضاً خسرت برياً فى مواقع كثيرة خارج أوروبا و لكن هذا يرجع إلى أن من بالخارج كانوا قادة ألمان مع قليل من القوات الألمانية و أن أغلب أو كل المعارك التى خاضوها خارج أوروبا كانت بجنود من جنسيات أخرى ..

و من هذا المنطلق بدأ تصوير الجندى الألمانى كبطل خارق لا يقهر و أن النصر حليفهم و لا شك .. الحقيقة الأمر أقرب للواقع حتى تلك اللحظة فألمانيا نجحت فى التوسع شرقاً و غرباً و جنوباً .. جنودها أقوياء و شجعان بالفعل .. مدربون على أعلى مستوى .. القادة الألمان هم الأكثر دهاءاً و الأبرع على مستوى التخطيط .. مدفعيتها الأعلى تطوراً و حداثة ..

كل تلك المؤشرات كانت تنذر بالخطر بالنسبة للحلفاء و صار هناك يقين لديهم بأنهم لابد و أن يتبعوا خطوات الألمان فى إختراعاتهم و أيضاً التفوق عليهم لإحداث الفارق على الأرض و لأن الحالة المعنوية للشعب كانت تتدهور و لم يسعفها الأفلام الدعائية التى كانوا يعرضونها للأسرى الألمان لأن الروايات التى كان يرويها المصابون العائدون لأرض الوطن كانت تنسف كل ذلك نسفاً ..

حاولت بريطانيا مع فرنسا إختراق الخطوط الألمانية رداً على معركة فيردان فبدأوا التجهيز لـمعركة سوم التى بدأت يوم 24 يونيو 1916 بدأت المعركة و كانت الخطة الرئيسية التى وضعها الجنرال دوجلاس هيج تقضى بأن تقوم المدفعية بتحطيم المدافع الألمانية و معها تدمير خطوط دفاعاتهم ثم يتبعها هجوم برى كبير لعناصر قوات المشاة ..

و لكن ما حدث كان العكس تماماً فالمدافع البريطانية لم تكن جيدة كفاية و أيضاً قوات المدفعية كانت تفتقد للتدريب الجيد و بدلاً من أن تضرب المدافع نقاط قوة الألمان و بسبب القياسات الخاطئة ضلت القذائف طريقها و أصابت الأرض فى إتجاه المواقع الألمانية و حين جاء دور قوات المشاة وجدوا أن الأرض مليئة بالحفر و الأوحال مما أبطأ حركتهم بشدة و جعلهم هدفاً سهلاً للمدافع الرشاشة الألمانية و بالتالى تم حصد القوة المهاجمة بكل بساطة .. أكثر من 55000 بريطانى ماتوا فى تلك المعركة التى إنتهت فى نوفمبر 1916 ..

الآن سمعة المملكة المتحدة على المحك و بدأ يترسخ فى ذهن الجميع أن فرنسا و بريطانيا لا يستطيعون شق صفوف القوات الألمانية .. كان يجب حدوث تغيير فى موازين القوى على الأرض .. كان يجب إختراع سلاح جديد يعطى قوات الحلفاء التفوق على الأرض .. حينها ظهر للوجود الإختراع البريطانى الخارق الدبابة ..

رائج :   صلاح الدين و موقعة حطين: قصة البطولة والتحدي في التاريخ الإسلامي

قوات الحلفاء قلدوا الألمان فى الإختراعات الكيميائية مثل غاز الكلورين و غاز الفوسجين و فى 1917 إستخدموا غاز الخردل الذى سبقهم له الألمان أيضاً بالإضافة لتقليدهم إختراع قاذف اللهب و حان وقتهم للتفوق الميدانى بإختراعهم للدبابة ..

فى 20 نوفمبر 1917 إختارت إنجلترا جبهة منطقة كومبراى لتجربة إختراعها الجديد .. إنطلقت 300 دبابة بإتجاه مناطق الألمان تسبقها نيران المدفعية لتمهد لها الطريق و بجانبها قوات فرق المشاة للتعامل مع أى تهديد قصير المدى .. وحش آلى لم يشاهده الجنود الألمان من قبل .. و بالتالى تراجعوا للخلف لمسافة 5 أميال دون مواجهة فعليه مع هذا الشىء الذى لم يدركوا كيفية التعامل معه ..

قوات الحلفاء لم تكن كسبت تلك المساحة أمام الألمان من قبل ما تسبب فى فرحة شديدة لهم و على الفور تم تحريك المدافع و الآليات لإتخاذ مواقع جديدة على تلك المساحة .. و لكن حدث خطأ كبير منهم حينها .. كان يجب على بريطانيا تمشيط كل القرى المحيطة بالمكان الذى وضعوا فيه آلياتهم و لكنهم لم يفعلوا و اهتموا بتثبيت أرجلهم فى المساحة المكتسبة قبل أى شيىء و بالتالى أهملوا وجود بعض المدافع الألمانية القليلة المتمركزة فى قرية فليسكيير و التى أًمرت بعدم التحرك و البقاء بعيداً تلك الدبابات ..

و عند مرور الدبابات فى تلك القرى محاولة أخذ مواقعها الجديدة إستقبلتها المدافع الألمانية المختبئة مع قذائف خارقة للدروع .. مفاجأة لم يحسب لها الإنجليز حساباً .. النتيجة كانت تدمير 32 دبابة و إعطاب العشرات فى ممرات قرية فونتين نوتردام .. إستجمع الألمان قوتهم مرة أخرى و قاموا بشن هجوم مضاد مع غطاء جوى كثيف إستعادوا به كل المساحة التى أخذتها بريطانيا منهم خلال 10 أيام فقط ..

ذلك كان الوضع على البر و كما هو واضح فلا يلوح فى الأفق أى بوادر لتغييره .. أما بالنسبة للوضع فى البحر فكان هناك أزمة .. بل كانت أكبر أزمة فعلية تواجه ألمانيا منذ بداية الحرب ..

بريطانيا كما هو معروف تملك أكبر أسطول حربى فى العالم و ألمانيا كانت تملك ثانى أكبر أسطول و هو ما يعنى أنه فى حالة تلاقى الأسطولين فستحدث أكبر المعارك الحربية فى التاريخ و بالطبع ستخلف خسائر هائلة قدرت بريطانيا أنها لا تريدها على الأقل فى تلك المرحلة .. و عوضاً عن المواجهة المباشرة قامت بإنتهاج طريقة أخرى فى التعامل مع الأسطول الألمانى .. الحصار ..

رائج :   الحرب العالمية الأولى .. الجزء الثاني || البداية

حينما تحاصر المجال البحرى لدولة ما فإنك تصيبها بالإختناق الإقتصادى لأنك تمنع سفنها التجارية من العبور و مع الوقت ستتأثر مصادر تمويل الجيش و بالتالى يتأثر الجيش الألمانى على الأرض .. وجهة نظر منطقية بالتأكيد .. قامت بريطانيا بتقسيم أسطولها إلى جزئين شمال و جنوب بحر الشمال و بالتالى سدت منفذ الخروج البحرى للأسطول الألمانى ..

أثر ذلك بدأ يظهر بوضوح على الأسواق الألمانية من نقص للسلع و غلاء للأسعار و معه حدثت 5 ثورات للجياع فى عام واحد و مع زيادة الضغط الداخلى كان يجب على الأسطول الألمانى التحرك إن لم يكن لفك الحصار فعلى الأقل لحفظ ماء وجهه ..

فى 31 مايو 1916 تقابل الأسطولان فى معركة جوتلاند الأسطول البريطانى أكثر عدداً و تسليحاً و لكن الأسطول الألمانى أقوى لأن سفنه كانت أفضل على مستوى الدروع و قوة القذائف .. 250 سفينة حربية و أكثر من 100 ألف جندى .. تم حصر الخسائر و كان نصيب ألمانيا خسارة 11 سفينة و 2500 جندى أما بريطانيا فكان نصيبها 14 سفينة و 6000 جندى .. خسارة كبيرة بالنسبة ليوم واحد و لكنها أثبتت شيئاً واحداً أن ألمانيا تتفوق على جيوش الحلفاء مجتمعة و التفوق كان براً و بحراً و لكنها لا تستطيع الإستمرار فى التفوق بسبب شيىء واحد فقط .. التمويل .

إذا بحثنا عن التمويل فسنجد أن 99 % من مصادر التمويل الأجنبى لجيش الحلفاء كان يأتى من جهة واحدة .. الولايات المتحدة الأمريكية .. أمريكا كانت على الحياد نظرياً و لكن عملياً كانت إستثمارات الأمريكيين فى أسهم الشركات البريطانية توفر أموالاً طائلة لبريطانيا لشراء الأسلحة و الذخائر من السوق الأمريكية ..

أمريكا تعاملت مع الحرب بشكل إستثمارى بحت بعيداً عن أى أخلاقيات قد تفرض عليها المشاركة فيها و على هذا الأساس وقفت على الحياد مستفيدة من زيادة نفقات الأطراف المتحاربة .. هم يقتلون بعضهم و أنا مصانعى للأسلحة و الذخيرة تعمل بكامل طاقتها و فوق ذلك تزيد الإستثمارات عندى .. هم يجرفون أراضيهم الزراعية و أنا أزرع و أطعمهم .. معادلة بسيطة نتيجتها الحتمية هى الربح المتضاعف دائماً للخزينة الأمريكية ..

الضغط يزيد على ألمانيا فتقوم بمهاجمة أى بواخر تجارية تمر فى بحر الشمال عن طريق غواصاتها المعروفة برمز U سواء تتبع بريطانيا أو حلفائها .. ثم ترفع الضغط فتهدد بإغراق أى سفينة سواء تجارية أو غير تجارية و سواء تتبع دول الحلفاء أو لا تتبعهم .. الحقيقة قرارات ألمانيا فى تلك المرحلة كانت إنفعالية جداً و نابعة من ضغط إقتصادى بالأساس دون دراسة عواقبها .. كانت ألمانيا كالغريق الذى يتعلق بقشة ..

رائج :   فيكتور لوستينج … الرجل الذي باع برج ايفل

فى تلك الأثناء كانت لوسيتانيا أكبر باخرة سياحية فى العالم و أكثرها فخامة تقوم برحلة من أمريكا إلى بريطانيا و تحديداً ميناء ليفربول .. تلك السفينة أصبحت من الماضى بعد إغراقها عن طريق طوربيد من إحدى الغواصات الألمانية .. حدث مثل ذلك فى ظروف أخرى كان كفيل بإعلان أمريكا للحرب لأنه تعدى مباشر على سفينة تمتلكها خصوصاً أنها سفينة مدنية إلا أن أمريكا آثرت أنها تبعد نفسها عن الحرب وعن تكاليفها و إستمرت فى دور التاجر الناجح الذى يحصد أرباحه من تقاتل الزبائن على بضاعته ..

ألمانيا و تحت وطأة الضغوط قررت رفع درجة الهجوم على ممتلكات بريطانيا و لم تكتفى بالهجوم على سفنها التجارية فقط و لكنها أيضاً جندت عملاء ألمان على الأراضى الأمريكية تقوم بزرع متفجرات فى السفن البريطانية و هى داخل الأحواض فى الموانىء الأمريكية و إستهدفت النشاطات التجارية البريطانية هناك بالإضافة لمجموعة من الإغتيالات لشخصيات بريطانية بارزة حتى وصل الأمر إلى زراعة قنبلة فى مقر الحكومة الأمريكية نفسها .. مستوى عالى جداً من التهور غير المحسوب يقابله مستوى أعلى من غض الطرف المحسوب و المرتبط بحجم الإيرادات الإستثمارية الناجمة من عدم الدخول فى الحرب .. و عليه إستمرت الإدارة الأمريكية فى دورها دون الإنحياز لطرف دون الأخر ..

هنا وصلت ألمانيا لقمة شططها بسبب الضغوط الإقتصادية و قررت كتابة رسالة برقية مشفرة للسفير الألمانى فى المكسيك فيها عرض رسمى من القيصر الألمانى للحكومة المكسيكية يدعوها لغزو ولاية تكساس و نيو مكسيكو و أريزونا مع ترك الحرية لهم لتقسيم أمريكا بينهم كمستعمرة مستقبلية .. ذلك الطلب التى إلتقتطته البحرية البريطانية عن طريق اللاسلكى و إستطاعت فك شفرته خلال أسبوعين و عليه تمت مقابلة فورية مع الرئيس الأمريكى ودرو ويلسون لإطلاعه بما حدث .. و فى 6 إبريل 1917 أعلنت الولايات المتحدة دخولها الحرب فى صف الحلفاء ..

خطأ مثل هذا أظهر ألمانيا أمام العالم فى موقف الضعيف أخلاقياً و أيضاً عسكرياً .. يبدو أن الحلقة تضيق على رقبتها و أنها إن لم تنجز نصراً حاسماً فى إحدى جبهاتها فإن الحلقة ستضيق أكثر فأكثر ..

مقالات ذات صلة