أجمل رسائل بريد الجمعة

المأزق ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

لا أدرى إن كانت رسالتي هذه ستلقى منك اهتماماً كافياً أم لا.
ذلك لأنها تثير موضوعاً قد تعتبره من الممنوعات ..وإن كان العالم كله ينظر إليه كأمر طبيعي للغاية..والقصة أنني تزوجت فى سن الثامنة عشرة من عمري وكان زوجي رجلاً متفهماً فوافق على استكمال دراستي الجامعية وأنا زوجة فقدرت له ذلك وعشت معه حياة سعيدة أحترمه وأحترم آراءه وأهله وأقوم بكل واجباتي نحوه. وكان والدي يعيشان فى إحدى مدن الجنوب .. وأبى طبيب ناجح وأمي سيدة مثقفة.. شخصيتها قوية ولى أخت متزوجة فى سن صغيرة مثلى وتقيم فى مدينة أخرى وأخ على وشك السفر فى بعثة إلى الخارج ..

وفجأة توفى أبى ورحل عنا, وتحير أخي ماذا يفعل ببعثته ثم استقر رأيه على ألا يضيعها من يده وسافر إلى الخارج .. ووجدت أمي نفسها وحيدة تماماً فى بيتنا وهى سن الثامنة والأربعين من عمرها .. فانتقلت أنا وطفلي من القاهرة إلى مدينتنا القديمة وعشت مع أمي وأصبح زوجي يمضى معي نهاية الأسبوع فى بيت أسرتي.ولم يكن طبيعياً أن أبتعد عن زوجي وبيتي إلى ما لا نهاية فبحثنا لأمي عن شقة صغيرة بالقرب من سكنى فى القاهرة وانتقلت للإقامة فيها بحيث تكون إلى جواري.

وعانت أمي فى وحدتها كثيراً فى البداية .. فبعد أن كانت نجمة فى مجتمع المدينة الصغيرة ولها صداقتها العديدة فيها أصبحت تعيش وحيدة فى شقة صغيرة فى مدينة كبيرة لا أحد يعرف فيها أحداً .. وكحل لوحدتها عرضت عليها إحدى صديقاتها أن تشاركها فى مشروع تجارى صغير لشغل فراغها فوافقت وأقبلت على العمل بحماس رغم أنها كانت تعمل لأول مرة فى حياتها وحققت فيه نجاحاً كثيراً.

وبعد عامين من ذلك عاد أخي فى أجازة من بعثته ليتزوج .. ففاجأتنا أمي بأن هناك شخصاً ممتازاً تعرفت عليه فى مجال عملها يطلب الزواج منها وسألتنا عن رأينا فى ذلك .. فأبدى زوج أختى موافقته ووافقت أختي بالتالي كما وافق أخي أيضاً ربما بتأثير حياته لمدة عامين فى الخارج فى حين امتنعت زوجته الصعيدية عن إبداء رأيها .. أما أنا فلقد اعترضت على زواجها بشدة وإصرار وقدت جبهة المعارضة بعناد ورفضت تماماً الموافقة وأبديت أسبابي وحججي بصراحة مؤلمة بغير مراعاة لما كانت تحسه أمي من حرج ولا لعجزها عن الإفصاح عن أسبابها بصراحة .. وكانت النتيجة أن رفضت أمي الزواج واعتبرته منتهياً وانشغلت بعملها ومساعدتي فى تربية بنتي وابني وتعليمها.

ومضى أكثر من عشرين سنة على هذه القصة ومازالت أمي والحمد لله تتمتع بصحتها وحيويتها وعملها .. ثم منذ سنوات احتفلت مع زوجي بمرور خمس وعشرين سنة على زواجنا وسافرنا معاً فى رحلة قصيرة جميلة, وبعد عودتنا منها بشهور مرض زوجي لمدة أسابيع ثم توفى رحمه الله وانهارت حياتي وسعادتي فجأة فقد كان زوجي هو محور حياتي وقد ازداد التصاقنا وتقاربنا بعد زواج ابني وابنتي وانشغالهما بحياتهما الخاصة ولم يبق لكل منا سوى الآخر وسيطرت الكآبة على حياتي وفقدت الاهتمام بكل شئ وأمضيت ثلاثة شهور فى غرفة نومي لا أغادرها ولا ارتدى ثياب الخروج وتزورني صديقاتي فى حجرة النوم ويحاولن إخراجي منها بلا جدوى وازداد وزنى ستة عشر كيلو جراماً خلال هذه الشهور الثلاثة وظهر الشعر الأبيض فى رأسي,

رائج :   الحزام المشدود ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

وكانت أمي تمر على كل صباح قبل الذهاب لعملها وبعد عودتها منه وكذلك ابني وابنتي ومع ذلك فقد ظل إحساسي بالوحدة شديداً، وتركتني أمي على هذه الحال 3 شهور ثم ركزت اهتمامها على وبدأت تجرني من الفراش جراً وبالعنف والإصرار وتلبسني أي ملابس يسمح وزنى الجديد بارتدائها ثم تصحبني معها قسرا إلى النادي وإلى المشي فى الشوارع المحيطة به لنتمشى ونتحدث ثم بدأت تجعلنيأجرى فى الصباح لأنقص وزنى

.. وشيئاً فشيئاً استجبت لمحاولاتها وخرجت منعزلتي واسترددت بعض رشاقتي وصبغت شعري. وكنت قد حصلت بعد وفاة زوجي على أجازة من عملي بدون مرتب لمدة سنة فبدأت عن طريق معارفها تبحث لى من عمل آخر لأجدد حياتي وأبتعد عن الذكريات الحزينة.

وعملت فعلاً فى شركة أخرى وبدأت أندمج فى الحياة مرة أخرى..
وبعد عامين تعرفت فى عملي الجديد على أحد المتعاملين معها وهو رجل فى مثل عمري لاحظت عليه أنه مهموم ومشتت الذهن حتى لقد نسى لدينا أوراقاً هامة تخصه فاتصلنا به ليتسلمها, فجاء شاكراً وعرفت منه أن زوجته قد توفيت منذ فترة قصيرة وأنه يعيش وحده وله ابن متزوج وأنه يعيش نفس الظروف التى عشتها بعد رحيل زوجي .. فقررت أن أشده للحياة كما شدتني إليها أمي وتكررت زياراته لنا فى العمل وتحدثت معه كثيراً ..

ووجدتني شديدة الاهتمام به وهو كذلك وبعد قليل طلب الزواج منى فطلبت منه مهلة للرد عليه ووجدت نفسي أواجه مأزقاً لا أحسد عليه إذ ماذا سيقول أبنائي حين أبلغهم بهذا الغرض؟ هل سيرفضون بإصرار كما رفضت أنا من قبل أن تتزوج أمي وقد كانت فى مثل سني الآن؟ولو رفضوا ولم يتفهموا كما لم أتفهم أنا ظروف أمي فلن أستطيع مخالفتهم .. ثم وهو الأهم ماذا ستقول أمي حين تراني أطلب لنفسي ما حرمتها منه وهى فى مثل سني وكيف ستكون استجابتها..

رائج :   رحلة القطار ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

هل ستتعجب لذلك أم ستذكرني بما كان؟
إن أخي وأختي يوافقان على زواجي ربما حتى لا يشعرا بالذنب تجاهي كما أشعر أنا به الآن تجاه أمي.فلقد عرفت أنى ظلمتها .. لكنى أخفف من إحساسي بالذنب بأني لم أكن أعرف أن الله سيمد فى عمرها عشرين أو خمسه وعشرين عاماً تعيشها فى وحدة ولو عرفت ذلك فى حينه لما عارضت فى زواجها .. ومن ناحية أخرى لا أتصور أن أعيش مثل هذا العمر وحيدة بلا رفيق يؤنس وحدتي كما عاشت هي.

إنني سيدة متدينة وأحس أن بيني وبين ربى صلة طيبة ومن حقي أن أمضى ما بقى من عمري فى صحبة إنسان أشاهد معه التليفزيون وأشرب معه شاي الصباح وأستشيره فى مشاكل عملي وأنتظر عودته ظهراً وأخرج معه فى المساء ولست أطمع فى ماله فقد كتبه كله لابنه ولا هو طامع فيما لدى .. وكلانا لا يطمع سوى فى الرفقة السعيدة الهادئة فى هذه المرحلة من العمر .. إننى أنتظر حكمك العادل سواء أيدتني فى رأيي أم اعتبرت زواج امرأة فى سني غير لائق .. فماذا تقول فى ذلك؟

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

ذكرتني تساؤلاتك المثيرة للتأمل فى نهاية رسالتك بما قاله الخليفة العباسي المعتصم حين حضرته الوفاة قال: لو علمت أن عمري قصير ما فعلت!

ومع أنه لم يفصح عما لو علم لما فعله, إلا أن المعنى الواضح هو أنه لو علم بقصر عمره وقد مات فى سن الثامنة والأربعين لكان أكثر إنصافاً وأقل اجتراء على المظالم. ولأنه لا أحد يا سيدتي يؤتى علم الغيب أو يعرف كم يطول به العمر فالأجدر به دائماً هو أن يكون منصفاً مع نفسه ومع الآخرين وأكثر فهماً لأعذار الناس وأقل تبرعاً بلومهم دون تقدير لظروفهم ودوافعهم .. لأن هذا أقرب للعدل ولأنه لا يعرف ماذا ستفعل به الحياة فى قادم الأيام ولا كيف سيكون تصرفه إذا ما وضعته الأقدار فى نفس الظروف التى يغالى الآن فى انتقاد من وضعوا فيها بلا رحمة أو إنصاف.

على أية حال يا سيدتى فلقد استدعت تجربتك الغريبة هذه التأملات العابرة, أما عن رأيي فى مشكلتك فلست أدرى لماذا صنفتيني بين من لا يعذرون الآخرين ولا يتفهمون احتياجاتهم الإنسانية والوجدانية فى مراحل العمر المختلفة ؟

وفى ذلك فإني أقول إنك أخطأت فهمي .. فالحق أن معياري فى الحكم على تصرفات الآخرين هو ألا تتعارض بالضرورة مع الشرع والدين والقيم الأخلاقية ثم بقدر المستطاع مع التزامات الإنسانية الرشيدة تجاه أبنائه وأهله ونفسه وكل ما عدا ذلك جائز ومقبول إذا توافرت له الظروف الملائمة بغير ابتذال يسئ إلى احترام الإنسان لنفسه أو ينقص من قدره عند الآخرين.

رائج :   نقطة البداية ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وتحريم الحلال يا سيدتى إثم لا يقل شناعة عن تحليل الحرام.ولقد قلت أكثر من مرة أن المرأة إذا أنست فى نفسها رغبة ملحة فى الزواج تخشى معها الفتنه ولم تستطع تقبل الحياة بغيره فإن زواجها فى أي مرحلة من العمر أكرم لها وأصون لحرماتها وليس من حقنا حينذاك أن نسألها لماذا تتمسكين بالزواج الآن أو لماذا لا تضحين به تجنباً لإحراج أبنائك المتزوجين؟ ..

إذ ما دامت قد قدرت كل الظروف المحيطة بها ولم تطق على وحدتها صبراً .. فلها أن تفعل ما تشاء فى حدود الشرع والدين .. لكن عليها أيضاَ أن تضع مصلحة أبنائها فى الاعتبار, وألا تضحى بها وتعرضهم للضياع والمهالك جرياً وراء رغبتها وحدها, بل وألا تتسبب فى إحراجهم إحراجاً لا يطيقونه ولا يصبرون عليه, وإذا قر قرارها وكان الزواج ملائماً ولا ينقص من قدرها فى عيون الآخرين فلتقدم عليه غيره ملومة من أحد وليمنحها أبناؤها تأييدهم و مباركتهم,

أما إذا كان غير ذلك كأن تتزوج مثلاً ممن يصغرها بثلاثين سنه أو من لا يتكافأ معها اجتماعيا وأسريا أو من يبدو واضح الطمع فى مالها ومال أبنائها فالزواج فى مثل هذه الحالات لا تتوافر فيه شروط الكفاءة والاحترام فإنه ينذر بالعواصف والزلازل ويقترب من حدود النزوات والأهواء التى لا يليق بجلال الأم ومكانتها ويحق للأبناء فى هذه الحالة أن يعترضوا عليه بشدة وأن يتمسكوا بموقفهم .

وزواج”الأيامى” أي النساء اللاتي لا أزواج لهن سواء كن أرامل أو مطلقات أو تأخر بهن الزواج أمر مندوب إليه ومفضل فى ديننا وعند الفضلاء من الناس .. فلا تقلقي إذن من تعجب والدتك من طلبك لنفسك ما أنكرتيه أنت عليها منذ عشرين سنة فلقد أنكرت عليها موقف الابنة التى تتفهم دوافع أمها للزواج بعد الترمل كراهة للوحدة أما هى فلن تنكر عليك رغبتك من موقف الأم التى تطلب السعادة دائماً لأبنائها وترجو لهم ما لم يتح لها هى فى دنياها وهذا هو دائماً موقف الأم السوية,

أما الموقف المؤثر حقاً فسيكون موقف أبنائك وليس موقف أمك فعسى أن يكونوا أرفق بك مما كنت أنت بأمك فى شبابك… وعسى أن تكوني أنت قادرة على التضحية والنزول عند رأيهم, مراعاة لاعتباراتهم عند الضرورة كما فعلت أمك فى سابق الزمان .. وكما ينبغى أن تفعل أيضاً الأم الرؤوم مع أبنائها إذا عجزت عن إقناعهم بدوافعها وأسبابها..وشكراً لك.

مقالات ذات صلة