أجمل رسائل بريد الجمعة

نقطة البداية ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب إليك طالباً النصيحة .. وأن يقرأ الآخرون قصتي ويعتبروا بما فيها ويتحابوا ولا يتباغضوا فتتفرق بهم السبل ..

فلقد نشأت لأب من كبار تجار المنسوجات في مدينة ساحلية وكنت الابن الأول له بعد شقيقة تكبرني والأخ الأكبر لشقيقين يصغرانني في السن , وقد تزوجت شقيقتي الكبرى من تاجر كبير يمارس نفس تجارة أبي .. أما الشقيقان فلم يكملا تعليمهما وفضلا التجارة على التعليم العالي وعملا مع أبيهما في تجارته الكبيرة في حين شققت أنا طريقي إلى الجامعة ونفرت من التجارة التي لم أكن مؤهلاً لها وأكملت دراستي في كلية الهندسة بتفوق وحصلت على البكالوريوس وفرح أبي بذلك فرحة طاغية فكانت هديته لي عقب تخرجي هي مكتب في وسط المدينة لأبدأ فيه عملي الهندسي الحر وشقة واسعة مؤثثة بكل الكماليات لتكون جاهزة لمن يجمعني القدر بها في المستقبل وسيارة جميلة , وسعدت بكل ذلك وشكرت أبي عليه كثيراً ..

واعتبرت نفسي من المحظوظين الذين أنعم الله عليهم بالكثير , وبدأت حياتي العملية بحماس فاستعنت ببعض زملاء دفعتي , وبدأنا نعمل معاً بالحب والتعاون والرغبة المشتركة في تحقيق النجاح وبدأنا ننفذ عمليات صغيرة وفقنا الله فيها كلها وأنعم علي بحب زملائي والعملاء ثم دخلنا في عملية اكبر فتعاونت فيها مع مكتب لمهندس كبير لحاجتنا إلى خبرته وإمكاناته ..وترددت خلال ذلك على مكتبه كثيراً فتعلقت أنظاري فيه بسكرتيرته ولاحظت عليها لباقتها وأدبها وحسن معاملتها للآخرين فوجدتني أتعلق بها من النظرة الأولى وسبحان من أودع القلوب أسرارها , ولأني أؤمن أن الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين فقد فاتحت زميلي المهندس الكبير مباشرة برغبته في الارتباط بسكرتيرته وسألته عن رأيه فيها فشهد لها بحسن الأخلاق .

وأكد لي أنها غير مرتبطة بأحد لأنها تعول شقيقتين تتعلمان في المدارس وأنها تعمل عنده منذ أربع سنوات كانت خلالها مثالاً للأدب والالتزام الخلقي , وسعدت بهذه الشهادة ولم يفسد علي سعادتي تحذير زميل لي من أن أبي ربما لا يوافق على زواجي منها لأنها من أسرة بسيطة , فطمأنته إلى أن أبي الغائب في الحج رجل يعرف ربه ولا يهمه مثلي سوى التدين والأخلاق .. أما الغنى والفقر فمن أعراض الدنيا الزائلة وانصرفت سعيداً إلى أمي وصارحتها بالقصة ففاجأتني بأنها تعرف والد هذه الفتاة لأنه كان يعمل في تجارة أبي منذ سنوات طويلة قبل أن يلتحق بالعمل في إحدى شركات الغزل وأنه توفي تاركاً ثلاث فتيات كبراهن فتاتي التي مازالت تذكرها وهي طفلة صغيرة …ثم توفيت الأم بعده بسنوات فتحملت خالتهن مسئولية الفتيات الثلاث إلى أن حصلت فتاتي على دبلوم التجارة وعملت وبدأت تتحمل مسئوليتها في تعليم شقيقتيها ورعايتهما .

ووجدت أمي راضية عن اختياري رغم الفارق الاجتماعي والمادي لما أحسته من تعلقي بها ولأن أباها كان كما قالت لي رجلاً طيباً وصالحاً وشجعتني على التقدم للفتاة وسؤالها عن رأيها في الارتباط بي لكي تزورها معي .. وسألت فتاتي فوافقت مرحبة , وتوجهت مع أمي لزيارتها ولم يبق أمامي إلا عودة أبي من الحج لكي تكتمل سعادتي …وعاد أبي وفي اليوم التالي لعودته مباشرة لاحظت عليه أنه يعاملني بجفاء لم أعتده منه من قبل , كما لاحظت همساً كثيرًا يدور بين أمي وأشقائي وينقطع بمجرد ظهوري , ثم صارحتني أم بأن أبي قد هاج هياجاً شديداً حين علم بالأمر ولامها واعتبر مجرد التفكير في زواجي من ابنة عامل سابق عنده عاراً ينبغي محوه وطالبها بإعادتي إلى رشدي وإلا أنزل بي أشد العقاب !

واسودت الدنيا في وجهي .. وركبت سيارتي وانطلقت أهيم على وجهي بلا هدف , وبعد فترة وجدتني واقفاً تحت العمارة التي يقع بها مكتب زميلي الكبير أترقب نزول فتاتي لأراها عن بعد .. ونزلت ورأيتها وتكرر هذا المشهد الصامت بعد ذلك كل يوم لمدة شهرين وأنا أغالب نفسي حتى لا ألوم أبي أن حرمني مما احل الله وشرعه , وذات يوم كنت في موقفي الصامت هذا ففوجئت بها تودع زملائها وتتجه إلى سيارتي وتخاطبني قائلة : أمازلت واقفاً في مكانك منذ شهرين ؟ فحاولت الاعتذار لها عن عدم الرجوع لها بعد عودة أبي من الحج بأنه عاد مريضاً فوجدتها تقول لي ببساطة : لا داعي للاعتذار عن تصرف غيرك .. فلقد كنت واثقة من رفضهم لي فكن واقعياً …ولا تحزن فازددت ارتباطاً بها ونشأت بيننا قصة حب طاهر نظيف وعشنا أجمل أيامنا ونحن نأمل في الله أن يهيئ لنا الظروف التي تجمع بيننا دون أن نغضب أبي .

واستمر الحال على ذلك حتى قرر زميلي المهندس الكبير إغلاق مكتبه والسفر للخارج .. فرجوتها أن تأتي للعمل معي وألححت عليها حتى قبلت …والتحقت بمكتبنا الصغير وانتظم العمل لوجودي الدائم بالمكتب بقرب فتاتي , ثم خرجت ذات مرة للمرور على موقع نقوم بالعمل فيه فخطر لأمي أن تمر بمكتبي لزيارتي خلال مرورها في السوق فرأت فتاتي فيه وسألت عن سبب وجودها وعرفت أنها تعمل معي فطلبت منها أن تتحدث معها في غرفة مكتبي وانصرفت أمي .

رائج :   السونار

وعدت إلى المكتب فلم أجد فتاتي فيه وسألت عنها فقيل لي أنها جمعت أشياءها من المكتب وودعتهم وانصرفت . واستفسرت من أمي عما حدث فلم تقل لي إلا أنه كان حديثاً عادياً لكن الفتاة انفعلت وقالت إنها ستتركني ليستريح الجميع .

وذهبت إلى بيت فتاتي فرفضت مقابلتي بالرغم من إلحاحي وتأكدت من أن كل شيء قد انتهى فعدت إلى شرودي واكتئابي واستقر الامتعاض في وجهي وأهملت كل شيء حتى مظهري .

ومضى عام طويل حاولت خلاله نسيانها وخطبت ثلاثاً تنطبق عليهن المواصفات العائلية المطلوبة فلم تطل خطبتي لأي منهم عن شهر ثم فسختها ثم دخلت في أحد الأيام محلاً تجارياً واشتريت بعض الأشياء وتوجهت إلى ” الكيس ” لدفع ثمنها فوجدت نفسي فجأة أمام فتاتي القديمة تجلس وراء الخزينة وتسمرت أمامها ورفضت أن أتحرك من مكاني إلا وهي معي , ولم تجد بداً من الاستجابة وهي مترددة بين الإحساس بالحرج والفرح لإصراري عليها , واستأذنت وخرجت معي إلى احد المحلات العامة وعرفت منها أن أمي قد أكدت لها أن وجودها في حياتي سيثير علي غضب أبي وأنه سيحرمني من كل ما أنا فيه من نعيم …واني لا أستطيع الحياة بغير هذه الإمكانات التي اعتدت عليها , فآثرت أن تتركني حتى لا تجني علي , وعلمت منها أيضا أنها قد خطبت خلال هذا العام لأحد أقاربها لكنها لم تستطع الاستمرار لأنها لم تنسني .

واتفقنا على ألا نفترق بعد ذلك أبداً وأعلنتها أني سأبذل كل ما املك من جهد لإقناع أبي , فإن لم يوافق فسوف أتزوجها ولي العذر فيما أفعل بعد ما عانيته خلال الفترة الماضية .

وحذرتني من غضب أبي علي فلم أغير رأيي …فطالبتني إذا اضطررنا للزواج بغير موافقته بأن أعيد إليه كل ما أعطاه لي عند تخرجي لأبدأ من جديد حتى لا أكون قد خالفت إرادته واستعنت على ذلك بما منحني من إمكانات …فرفضت هذه الفكرة وأنا أؤكد لها أني في النهاية ابنه ولن يسعده أن يعيدني إلى نقطة البداية من جديد , وتوجهت لأبي وحدثته مباشرة في موضوعي لأول مرة فسخر مني بقسوة واتهمني بالجنون وسألني ثائرا: أتريد أن تجلب العار لي وتثير طمع العاملين عندي في أن يتزوج شقيقاك من بناتهن ؟ وطالبني بنزع هذه الفكرة نهائياً من رأسي وإلا أدخلني مستشفى الأمراض العقلية !

وسلمت أمري لله وبدأت أستعد للزواج من فتاتي رغم رفض أبي , وحددنا موعد الزفاف وأخبرت أهلي به وأنا لا أنتظر حضور احد منهم , واقترب يوم الزفاف ولم يتغير موقف أبي .

وخرجت من المكتب إلى احد المواقع التي نعمل فيها ..أنتظر حضور أحد منهم إشفاقاً من إغضاب أبي , واقترب يوم الزواج واشتريت بدلة الفرح ولم يغير أبي موقفه , ثم خرجت من مكتبي قبل يوم الزفاف بثلاثة أيام إلى موقع نعمل فيه وأنا بالقميص والبنطلون كعادتي في العمل وعدت منه إلى المكتب فما كدت أركن سيارتي حتى وجدت احد العاملين مع أبي يقول لي : إن أبي سيسافر الآن إلى القاهرة لعمل هام وسيارته معطلة لهذا فهو يريد السيارة ليسافر بها , فأعطيته مفاتيحها وصعدت للمكتب فرأيت على مدخله منظراً غريباً …فقد وجدت بابه مغلقاً وأمامه تتناثر أوراق ورسوم هندسية وأوراق ممزقة كثيرة أمسكت ببعضها فإذا بها أوراق مكتبي , فحاولت فتح الباب بمفتاحي فلم ينفتح ودفعت الباب أنادي على العاملين معي فجاءني صوت غريب من الداخل يطالبني بالانصراف لأن المكتب لم يعد ملكي وأنا ممنوع من دخوله .

وكدت اسقط على الأرض وتحاملت على نفسي وركبت سيارة أجرة إلى شقتي التي سأتزوج بها بعد ثلاثة أيام فوجدت على بابها قفلاً كبيراً ومفتاحي لا يفتح وحارساً مقيماً داخلها يطالبني بالانصراف في هدوء , وهرولت منها إلى بيت فتاتي , وعرفت أن أبي وشقيقي وزوج شقيقتي قد ذهبوا إلى المكتب وطردوا العاملين به وألقوا أوراقه خارجه ومزقوا بعضها …ثم خرجوا من المكتب إلى الشقة وغيروا قفل الباب وحرموني حتى من الحصول على ملابسي وبدلة الفرح .. وأمضيت ليلتي في فندق صغير .. وبت ليلتي راقداً فوق السرير بالقميص والبنطلون لا يغمض لي جفن وأنا محموم من الألم والقهر وأهذي وأسأل نفسي إلى هذا الحد يا أبي .. وإلى هذا الحد يا شقيقيّ الحبيبين .. وتمزقون أوراق العمل وبها حقوق ناس ومصالحهم .. وأين الكلمة الطيبة يا شقيقي التي تخفف من غضب أبي بدلاً من المشاركة بهذا الحماس والنشاط في خراب بيت شقيقكما الأكبر .. إلى هذا الحد لا حول ولا قوة إلا بالله .. ثم تسيل دموعي بلا توقف وحتى الصباح .

ونهضت من الفراش مريضاً وتوجهت للبنك مباشرة وسحبت ما بقي لي فيه من نقود .. وسددت مرتبات العاملين معي وأعدت ” مقدمات ” الأجر التي حصلت عليها من بعض الزبائن لأعمال جديدة لن أستطيع الوفاء بها …ولم يتبق معي سوى مائة جنيه فقط , دفعتها للمأذون الذي عقد قراني على زوجتي وأنا بنفس القميص والبنطلون اللذين لم يعد عندي غيرهما من الملابس , وأقمت مع زوجتي وشقيقتيها في بيتهن البسيط لكنه دافئ بالحب والتراحم بين ذوي القربى .

رائج :   صائد الأحلام .. رسالة من بريد الجمعة

وبدأت أفكر فيما افعل لأكسب رزقي وأعول زوجتي التي رفضها أهلي لفقرها وبساطة أهلها فتزوجتني هي فقيراً وبلا أهل نهائياً وسبحان مغير الأحوال .

وخلال بحثي عن عمل جديد رأيت ” تركتي ” توزع على ” ورثتي ” أمام عيني , فرأيت شقتي التي كنت أستعد للزواج بها يفوز بها شقيقي الذي يليني في السن , ورأيت سيارتي يفوز بها شقيقي الأصغر , ورأيت مكتبي يستولى عليه زوج شقيقتي التاجر الكبير ويحوله إلى مكتب للاستيراد والتصدير ليوسع تجارته ونشاطه , ويضع عليه لافتة باسمه !

وقد قاطعني أبي وشقيقاي وزوج شقيقتي …ونسوا تماماً وجودي في الحياة فلم يعد لي أهل سوى بعض الأصدقاء وأسرة زوجتي البسيطة , وراقبت كل ذلك في صبر وصمت وأنا ضيف في بيت زوجتي وشقيقتيها .

ومضى شهران على إقامتي معهن …ثم وفقني الله للحصول على عمل بمرتب كبير في شركة للاستثمار والتعمير فأجرت شقة مفروشة وانتقلت إليها مع زوجتي …وبعد عام واحد كافأنا ربك والذي لا ينسى أحداً على صبرنا وتحملنا للأذى فجاءني عقد للعمل في إحدى الدول العربية وسافرنا إليها وعملت هناك خمس سنوات متصلة بلا إجازة واحدة وفتح الله لي أبواب الرزق فيها بسخاء فانهال علي العمل الإضافي في التصاميم الهندسية دون سعي مني وبأجور لا تفسير لها عندي سوى أن الله أراد أن يعوضني بها عما خسرت …وأنجبت طفلاً فسميته باسم أبي رغم مقاطعته لي وأيدتني زوجتي في تسميته باسمه , ثم أنجبت طفلة فاخترنا لها معاً اسم أمي , ثم وجدت بعد خمس سنوات من سفري أن ما تحقق لي من مدخرات خلالها لا يتحقق لغيري في أقل من عشر سنوات فقررنا العودة لبلادنا .

وكنت خلال اغترابي قد عرفت أن أبي قد مرض منذ فترة مرضاً شديداً أقعده عن الحركة …وأن إخوتي يتخبطون في إدارة التجارة وحدهم .. كما علمت أيضاَ أن زوج شقيقتي قد تورط في صفقة استيراد مشبوهة ودخل السجن لفترة فكنت أرسل إلى شقيقتي مصروفها وأولادها الأربعة كل شهر خلال هذه المحنة لتعثر تجارة أبي على يدي ولديه …وبعد عودتي قررت استئناف عملي وبحثت عن شقة , فإذا بي أجد شقة في نفس العمارة التي كان بها مكتبي القديم فاشتريتها وأثثتها وأقمت فيها مع أسرتي الصغيرة , واستقر بنا الحال بفضل الله ونجح عملي وأتاني الرزق الوفير …والحمد لله ورضيت عن حياتي وعملي وأسرتي , لكن شيئاً واحداً ينغص علي هدوئي الآن هو أن تجارة والدي قد أصبحت للأسف مهددة بالإفلاس بسبب نقص السيولة وكثرة الديون , وقد باع شقيقي الشقة التي ” ورثها ” عني لتسديد بعض الديون لكن الباقي مازال كثيراً .

وأنا معي الآن من فضل الله ما استطيع به تسديد الديون وإنقاذ التجارة من الإفلاس ومن عرض المنزل الكبير والمحل للبيع وأفكر جدياً في القيام بذلك لكن الشيطان يا سيدي يدير رأسي أحياناً فأتساءل بيني وبين نفسي ولماذا لا اشتري المنزل الكبير الذي قضيت فيه أحلى أيام عمري ويعيش فيه أبي وأمي وشقيقاي وزوجتاهما , وأشتري المحل حين يعرض للبيع بدلاً من أن أسدد عنهم الدين ثم اطرد شقيقي الاثنين من البيت وأبقي على أمي وأبي حتى لا ارتكب معصية ترقى إلى الكفر والعياذ بالله ,

واستغرق في هذا التفكير فترات طويلة وتستولي علي الرغبة في الانتقام فلا يحد من هذا الأفكار السوداء عندي سوى زوجتي التي رفضوها منذ تسع سنوات وطردوني من اجلها شر طردة والتي تحثني الآن على أن أسامح وألا أقابل السيئة بالسيئة وأن أقف بجانبهم لأنها أحبت إنساناً طيباً متسامحاً ولا تريد أن تعيش مع إنسان متسلط جبار إذا تحولت إليه , وهكذا ..حتى توترت علاقتي بها أول مرة ..وأصبحت امضي أكثر أوقاتي خارج البيت لأفكر بهدوء فيما افعل .. أما زوج شقيقتي فقد تصور أني عفوت عما فعل بي بعدما جرى له لكن هذا غير صحيح مع أنه يحاول الآن كسب رزقه بشرف , والحق أنه تراودني أيضا فكرة الانتقام منه وألا أتركه في حاله وأن أنغص عليه عيشه بما فعل بي .

وكلما هممت بشيء من ذلك رأيت وجه زوجتي الطيب يحذرني رغم خصامنا فأرجع عما أفكر فيه والنتيجة أني في عذاب مقيم , فلا أنا وقفت بجانب إخوتي في محنتهم ولا أنا قادر على الانتقام منهم أو من زوج شقيقتي …ولا أنا أرحت نفسي وأرحت زوجتي ولا أنا زرت أبي 
وأمي لأطمئن عليهما …فماذا افعل ؟

رائج :   أيام الطفولة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولماذا لا يتصل بي إخوتي ويعتذرون لي عن فعلتهم السوداء في حقي .. فيرق قلبي وأنسى ما فعلوا وأخرجهم من عثرتهم أو بماذا تنصحني يا سيدي ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

هناك كلمة عربية قديمة تكاد تلخص في إيجاز معجز قصتك الغريبة هذه وينبغي أن تتذكرها دائماَ وأنت غارق في أفكارك وحيرتك الآن .. أما الحكمة فتقول : دخل بيتاً ما خرج منه !

وتفسيرها أن ما يخرج من بيت المرء من عمله وفعله وإرادته إنما يعود إليه من حيث لا يدري , فإن كان خيراً فلقد عاد إليه الخير , وإن كان شراً فلقد رجع من حيث خرج .

فماذا تريد لبيتك وأسرتك الصغيرة الآمنة هذه ؟

أتريد لها أن يغزوها – لا قدر الله – شر لأنك استسلمت لشهوة الانتقام من بعض اهلك , والانتقام شهوة كباقي الشهوات قد تستولي على المرء وتخرجه من طبيعته وتنسيه ربه وخلقه ودينه ؟

أم تريد لها أن تعيش آمنة مطمئنة سعيدة ترفرف ملائكة الخير في سمائها …وتذهب عنها عوادي الأيام .

إن النفس المشغولة بالرغبة في الانتقام من الآخرين حتى ولو ظلموها نفس مهمومة قلقة أضافت إلى همومها العادية همها بالآخرين …والنفس المتسامحة التي وكلت إلى خالقها أن يأخذ لها ثأرها من ظالميها ..نفس مطمئنة هادئة واثقة من عدالة ربها .

انت يا صديقي في وضع لا يسمح لك حتى أن تسعد بثأرك من ظالميك , لأنهم بضعة منك فإن شمت فيهم فكأنما شمت في عقاب أصاب كبدك أو صدرك , ولست أطالبك بمكافأة ظالميك على ما فعلوا وإنما أطالبك فقط بأن تعتبر بما جرى لهم من جراء ظلمهم مهما كانت دوافعهم إليه وأن تنهض لأداء واجب عائلي يفرضه عليك دينك وخلقك هو حماية اسم أبيك الذي هو اسمك وإنقاذ تجارته من الإفلاس وبيع ممتلكاته في المزاد العلني مادمت قادراً على ذلك فأنت ومالك لأبيك .

كما لابد أن تعرف حتى ولو ظلمك ومادام في حاجة إلى نجدتك وأنت قادر على نجدته وديونه عليك مازالت كبيرة ومستحقة السداد رغم استرداده لما أعطاك في نوبة غضب جنوني شاركه أو شجعه عليها شقيقاك وزوج شقيقتك …فنال كل منهم جزاء ما فعل من محكمة الأيام , ويكفيك نصر ربك لك , وفضله عليك الذي أعاد إليك أكثر مما فقدت حين عدت من جديد إلى نقطة البداية ولا أحد يطالبك في النهاية بأن تذرو في الهواء ما كسبت بالكفاح المضني والعمل الشاق في الغربة وفي بلادك …وإنما تطالبك الرحمة والبنوة والأخوة بأن تقيل شقيقيك من عثرتهما بإقراضهما ما يسدد الديون وبالضمانات التي تكفل لك استعادة مالك بعد أن تخرج التجارة من محنتها …ويكفيك ” عزاً ” أن جاءت نجدتهما على يديك أنت الذي لم يحفظا له حق الأخوة من قبل وفي الحديث الشريف أنه ” ما ازداد أحد بعفو إلا عزاًّ …فأعفوا يعزكم الله ” .

وأي عز وأي شرف أكثر من أن تكون أنت الذي توهم البعض في حمئة الغضب الأعمى أنك قد أصبحت عار الأسرة …فإذا بك من ينقذ شرفها ويحفظ عليها كرامتها وعزها بعد حين !

وأي تكريم من الله سبحانه وتعالى لك تتردد في قبوله ونيل شرفه ..وتفكر في إفساده عليك بالرغبة في الانتقام ! ..
يا صديقي إنه شرف لو تعلمون عظيم ..ورد لاعتبارك جاءك يسعى واستكمال لسعادتك وهنائك …وقربى تتقرب بها من خالقك …وتحتمي بها من غوائل الدنيا …وتظل بها أسرتك الصغيرة من هجير الحياة وتقلبات الزمن , فلا تتردد فهذا هو ما تريده في أعماقك لكنك فقط تنتظر أن تأتيك المبادرة من شقيقيك ..وتنتظر أن يبدآك بالاعتذار .

فلماذا لا تتصور أنهما لولا إدراكهما لفداحة ما شاركا فيه لكانا المبادرين بالاعتذار إليك وطلب نجدتك .. وكيف لم تزر أبويك حتى الآن ورعايتك الإنسانية لهما واجبة حتى وإن لم يبرك أبوك في نوبة الغضب الأسود .

يا صديقي لقد جرى ما جرى .. وآن للقلب الجريح أن ينسى طعنات الآخرين الدامية له ..وإلا استحال عليه أن يهنأ بصفو حياته ولولا نعمة النسيان ما صافح أحد أحداً …فزر والديك رعاية لحقهما عليك …وسوف تكون زيارتك لهما بداية لتشجع شقيقيك على الاعتذار إليك وعودة المياه إلى مجاريها بينكم إن شاء الله , واعرضْ بلا تردد ما تريد أن تفعل لإقالتهما من عثرتهما وسوف يتلقيان عرضك النبيل بدموع الندم , وتذكر دائماً قول أبي الدرداء : ” إنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه ” فعسى أن تكون من الطائعين إن شاء الله فتطرح هذه الأفكار السوداء جانباً وتستجيب لرأي زوجتك الفاضلة وتكون مثلها متسامحاً وعفواً فـ ” المرء مع من أحبَّ ” خلقاً وشمائل ورقة وعفة …إذن كيف ترضى لنفسك ألا تكون معها في كل ذلك .. وأنت المحب الأمين ؟

مقالات ذات صلة