أجمل رسائل بريد الجمعة

الهدية المتأخرة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

لا أكتب لك عن مشكلة أعانيها وإنما بسبب حلول عيد ميلاد أبي منذ فترة قصيرة, فأنا الابنة الكبري لأب محام حنون, وأم ربة منزل رمز للطيبة والزوجة المخلصة ولي أخان وأخت يصغرونني, ومنذ نعومة أظافري عهدت أبانا صديقا وأخا قبل ان يكون أبا, وكنت دائمة الحديث معه, ونشأنا جميعا علي الحب والاتحاد وكم كانت فرحة أبي عندما حصلت علي مجموع كبير في الثانوية العامة, والتحقت بكلية الألسن, وبرغم أنه كان يريد لي الالتحاق بالسياحة والفنادق فإنه لم يرغمني علي ذلك, كما كان يفعل دائما معي, ومع باقي اخوتي. وكم كانت فرحته عندما التحق أخي بكلية الحقوق.

وأذكر الآن كم كان أبي يحب أخي الأصغر جدا ويدلله وكم كنا جميعا نعترضعلي ذلك ونقول له مازحين أنه يحبه أكثر منا فكان يجيبنا دائما برد واحد هو الصغير الصغير حتي يكبر.

وكان أبي بالنسبة لأمي ولنا هو كل شئ, فهو عمود البيت, وهو من يشتري الطعام من السوق بجميع أنواعه, ومن يصلح الاشياء التالفة في المنزل, ويحمل جميع همومنا, وإذا طلبنا منه شيئا فلابد أن يفعله, وقد كنت أنسي أنا واخوتي ماطلبناه أحيانا, ولكنه ما كان لينسي أبدا, بل كان يعرف احتياجاتنا قبل أن نطلبها ويفاجئنا بها.
وكان لايتأخر أبدا عن مساعدة من يحتاج إليه, ويصل الرحم, ويشجعنا علي ذلك, والجميع يعتبرونه كبير العائلة, ومن يستشيره الأهل والأصدقاء في مشاكلهم, لانه لايخذل أحدا أبدا. فإذا احتاجته مثلا عمتي لأمر ما يكون أول من يذهب وكان يعتبر نفسه مسئولا عن أبنائها الثلاثة, وعن تربيتهم خصوصا بعد انفصال والدهم عن والدتهم.

رائج :   البشرى القديمة ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

كما كان صديقا لجميع أصدقائنا ودائم المزاح معهم, ويعتبره اصدقاؤنا بمثابة أبيهم, وكان بحق نعم الأب فهو يحرم نفسه لكي يسعد أبناءه ونحن كل شئ في حياته.

ولاتفوته مناسبة سعيدة إلا واحتفلنا بها جميعا ونجده يدخل البيت حاملا الجاتوه, وتخرجنا جميعا في كلياتنا, وأكرمنا الله بأفضل الوظائف وكبر أخي الأصغر ودخل المرحلة الاعدادية, وحياتنا علي وتيرتها الهادئة نفسها لاينغصها شئ سوي عدم زواجي حتي الآن.

وفجأة وبدون أي مقدمات شكا أبي من آلام بالمعدة, وكان يتمتع بصحة ممتازة, ولم اره ذات يوم مريضا ثم شكا من انتفاخ في المعدة واثبتت التحاليل مرضه بالمرض اللعين, كل ذلك وأبي لايشكو من شئ أو من أي ألم إلا من هبوط عام بعد عملية البذل فقط ليس أكثر. ولك أن تتخيل مدي الصدمة عند سمعنا الخبر المشئوم فتعاهدنا أن نخفي عليه الأمر, وطلبنا من المستشفي ألا يخبره واكتشفنا بعد ذلك انه في أواخر مراحله, ورحل أبي عن الحياة وسط ذهولنا خلال عشرين يوما فقط من بداية المرض إلي الوفاة, ولم يكن يشكو من أي ألم ولم يشعر بأعراض المرض اللعين, ولم يكن يعرف حتي أنه مريض به, وكان يظن أنه بقسم الباطنة بالمستشفي, وهو يعالج بقسم الأورام وتركنا وراءه كمن يقف في الهواء.

رائج :   القيود الثقيلة ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

انني اكتب لك هذه الرسالة لأننا كنا للأسف قد نسينا عيد ميلاد أبي في العام السابق, ودخل هو علينا حاملا الجاتوه وسألته أنا عن سبب شرائه له وهل هناك مناسبة لذلك فاحرج أبي وذكرنا بان اليوم عيد ميلاده, وأنه بحث في الشقة عن هديتنا له, وعن الجاتوه, وكنا دائما نخبئه في الصالون حتي لا يراه ونفاجئه به بعد ذلك, فلم يجد شيئا فعرف أننا قد نسينا فاشتري هو الجاتوه لكي يحتفل به معنا, فقررت بيني وبين نفسي ان اشتري له هدية فاخرة في عيد ميلاده المقبل,

ولكن القدر لم يمهلنا, وتوفي أبي قبل عيد ميلاده بشهرين عن 53 عاما فقط وقررت أن تكون هديتي له هي هذه الرسالة التي أشكره بها علي كل مافعله لنا, وعلي حسن تربيته لنا, وعلي تفضيله لنا علي نفسه, وعلي أنه رعي الله فينا حق رعايته فأعاننا بذلك علي البر به, وإني لأشهد الله بأنه خافه فينا, وهديتي لأبي التي اطلبها منك, ومن قرائك, وقد تغيرت الظروف الآن هو أن تستغفروا له وتطلبوا له الرحمة وتقرأوا له الفاتحة علي روحه الطاهرة.

رائج :   القرار السليم ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

هدية والدك الحقيقية منك ومن اخوتك هي هذا الحب الصادق له.. وهذا العرفان الأمين له بعطائه لكم وتفانيه في رعايتكم واسعادكم خلال رحلة حياته بينكم.. انها جائزة غالية يمنحها الأبناء البررة للآباء الذين يحسنون اداء رسالتهم الإنسانية, ويرعون الله في ابنائهم وحياتهم العائلية.. وهي جائزة لاتصطنع ولاتزيف.. ولاتشتري بالمال أو الجاه, وإنما تستوهب فقط بالحب والرعاية والعطاء المخلص, وانكار الذات.

والأب رمز يعيش بعد رحيله في مخيلة الابناء ويشكل جانبا جوهريا ومهما من وجدانهم وشخصياتهم ورؤيتهم للحياة.

والآباء الذين يرعون ربهم في رعيتهم من الابناء ويلتزمون بالنهج القويم في الحياة هم الذين يفخر الابناء بانتمائهم إليهم.. ويعتزون بذكراهم أبد الدهر. ويحق فيهم قول الشاعر:

يزول الأنام ويبقي الكلام
وما الناس في الدهر إلا سير

فإذا كانت هديتك إليه قد تأخرت بعض الشئ.. فإن الهدية لاتفقد قيمتها في مثل هذه الأحوال.. حتي ولو جاءت بعد الأوان.


لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …

مقالات ذات صلة