أجمل رسائل بريد الجمعة

خيوط الألم ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب إليك بمشكلتي وأدعو الله أن يوفقك إلى رد يعينني على اتخاذ قرار يرضي ربي وضميري.

وأبدأ فأقول لك إنني طبيب في أواخر الثلاثينيات من عمري وقد بدأت قصتي حين فقدت أمي عقب ولادة أخي الوحيد بعدة شهور وعمري آنذاك 3 سنوات فتولى أبي صاحب الوظيفة الهامة تربيتنا تفرغ لنا ورفض الزواج من أجلنا وأدَّى رسالته نحونا بأفضل ما يستطيع أب أن يفعل بعد أن وجد نفسه مسئولاً عن ولدين يتيمين فكان يقوم لنا بكل ما نطلب بنفسه حتى لقد كان يصنع لنا كعك العيد بيديه ويذهب به معنا إلى الفرن ، كما تفعل أمهات أصدقائنا معهم حتى لا نحس بأي نقص عن غيرنا فنشأنا والحمدلله متوازنين نفسيًا نحب الناس وشديدي الارتباط ببعضنا البعض ومتفوقين في دراستنا .. وأبي يرقبنا سعيدًا بأن غرس في نفسينا التراحم والتعاطف وحب الآخرين ..

وواصلنا دراستنا بلا مشاكل حتى بلغت السنة الثالثة بكلية الطب والتحق أخي الوحيد بالسنة الأولى بكلية الهندسة .. ثم فجأة رحل عنا والدنا الطيب العطوف ووجدنا أنا وشقيقي الوحيد نفسينا ونحن في أوائل سن الشباب وحيدين تمامًا بلا أب ولا أم ورغم الصدمة الشديدة فقد حاول كل منا أن يتماسك من أجل الآخر ، وحاولنا الصمود للمحنة وكان أبي قد خلَّفنا وراءه مستورين إلى حد ما ، نعيش في شقة جميلة ونركب سيارته ونواجه الحياة بمعاشه ولكن بلا أي مورد آخر ، فكان شقيقي الأصغر يقتصد من نصيبه في المعاش ويقتر على نفسه ليعطيني ما أشتري به كتب الطب المرتفعة الثمن ،

وفي تلك الفترة كنت قد ارتبطت عاطفيًا بزميلة لي في نفس الكلية وكعادتي مع شقيقي صارحته بكل شيء فبارك حبي لزميلتي من البداية وشجعني عليه ثم تخرجت قبله بشهور فصمم على أن أتزوج فتاتي في شقتنا تلك بمجرد أن ينتهي من دراسته التي لم يبق على نهايتها سوى بضعة شهور ويسافر إلى أخوالي الذين يعملون في بلد عربي منذ سنوات ويعمل ويبني حياته ويشتري لنفسه شقة أخرى ! ويترك لي شقتنا الجميلة نهائيًا !

ولم يكتفِ بذلك بل قدم لي أيضًا نصيبه من مصاغ أمنا لكي أبيعه وأشترى بثمنه الشبكة لخطيبتي .. ولم أستغرب منه كل ذلك فلقد كنت أبادله عاطفته الأخوية العميقة بمثلها .. ولا يهنأ لي بال إذا أصيب بنزلة برد وأسعد بتحضير الطعام له وإعداد ملابسه كما لو كان ابني الصغير وليس شقيقي وأبلغت فتاتي بما استقر عليه الرأي بيني وبينه وسعدت به .. واطمأن قلبانا إلى المستقبل ..

واقترب موعد امتحان بكالوريوس الهندسة لشقيقي حتى لم يعد باقيًا عليه سوى خمسة شهور .. وضاعف شقيقي من جهده في المذاكرة ورسم اللوحات وإعداد المشروع ليحقق حلم أبي رحمة الله عليه بأن يتخرج كل منا من كليته فبدأ يشعر بضعف مفاجئ في إبصاره فسرتُه بأنه بسبب الإسراف في التركيز في اللوحات الهندسية الدقيقة لكني لاحظت عليه بعد ذلك أنه لا يذهب إلى كليته وأنه يتخبَّط في الأثاث عندما يتحرك من مكان إلى مكان وقد حدث كل ذلك في أيام فأحسست بخوف غامض يعتصرني واصطحبته إلى أساتذتي في الكلية ثم إلى كل أساتذة الرمد في مصر فصُدمت صدمة شديدة على أنهم أجمعوا على أنه يفقد بصره تدريجيًا وأنه سيفقده نهائيًا خلال أسابيع وسيعيش ما بقي له من عمر أسيرًا للظلام .

ولا أستطيع مهما وصفت لك أن أصف لك ما حدث لنا حين خبا الضوء الأخير من عينيه ودخل شقيقي عالم الظلام الأبدي بكل أسف ، فقد لازم الفراش وامتنع نهائيًا عن الكلام وتناول الطعام وتغيير ملابسه وأنا بجانبه أجلس بجوار سريره لا أفارقه ودموعي تنهمر بلا توقف والطعام في يدي أحاول أن أضعه في فمه بالصبر والرجاء والاستعطاف .. وهو لا يستجيب ولا يتكلم ولا يرد وأحزان الدنيا كلها تجمعت في داخلي أستعيد كل مشاهد الشقاء في حياتنا ، أمي التي حُرمت منها طفلاً في الثالثة وأبي الطيب الذي رحل عن الدنيا قبل أن يرانا كما أراد ووحدتنا في مواجهة الحياة وتشابك خيوط حياة كل منا مع حياة الآخر .. وتخطيطه لمستقبله بعد التخرج الذي لم يتم ..

وتذكرت صورته وهو يقدم لي مصاغ أمه لأبيعه وتضحيته بنفسه لإسعادي وإسعاد أي إنسان يستطيع مساعدته وثقلت عليَّ الأحزان وهتفت دون أن أدري أكثر من مرة من بين دموعي : رحمتك بعبادك يا رب .. رحمتك بعبادك يا رب .. ومن أحق بها من شقيقي هذا ومني وجئت إليه بالأطباء فشخصوا حالته بأنها حالة اكتئاب نفسي شديدة ونصحوني بأن أتشجع أنا أيضًا لأني أسير إلى الاكتئاب بخطى سريعة .. وتجلت رحمة ربي بأن رزقنا أشخاصًا من الأقارب والجيران والأصدقاء علموا بمحنتنا فوقفوا إلى جوارنا ولازمونا ساعة بساعة يلبون أي طلب نحتاج إليه ويقومون بأعمال البيت ويتسابقون للقيام بأي شيء نطلبه .

رائج :   الانتقام الوهمي .. رسالة من بريد الجمعة

وبفضل الله وبفضل هؤلاء الأشخاص الفضلاء بدأت أخرج من عزلتي واكتئابي بعد أن أقنعوني بأن حالة شقيقي ستزداد سوءًا إذا استمر استسلامي للحزن ، فتشجعت قليلاً وبدأت أحدث شقيقي بالدين مرة وبالمنطق مرة أخرى وأحدثه عن أجر الصابرين عند ربهم وذهبت إلى أحد مراكز رعاية المكفوفين وتعلمت من أساتذته كيف أجعل الحياة بالنسبة لشقيقي أكثر سهولة وواظبت في الإلحاح على شقيقي بأن يستسلم لإرادة ربه وأن يستعيد إقباله على الحياة وبدأ شقيقي يستجيب لإلحاحي فبدأ يخرج من سجن سريره الذي لا يغادره ويتجول في الشقة قليلاً ثم بدأ يستقبل بعض أصدقائه وأحضرت له مدرسًا ليعلمه الكتابة بطريقة برايل . 

وفي غمار كل ذلك انتبهت إلى أن خطيبتي لم تكن إلى جانبي للدرجة التي كنت أتمناها منها في تلك المحنة ولم أتوقف عند ذلك طويلاً لأني ألتمس للناس دائمًا الأعذار ولا أكلف أحدا فوق طاقته لكني رأيت من واجبي أن أبلغها بالتطورات التي طرأت على خطتنا للمستقبل وهي أن شقيقي سوف يقيم معي في أي حياة تكون لي ولن أتخلى عنه تحت أية ظروف إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً وأمهلتها وقتًا للتفكير قبل إبداء رأيها .. وجاءني الرد بعد قليل بأنها تحبني وتحترمني من أجل ذلك وتقبل الزواج مني مع هذه الظروف .

وتزوجنا يا سيدي في نفس شقتنا الجميلة ومعنا شقيقي ورفيق دربي وكان قد غيَّر مسار حياته بعد المحنة فترك دراسة الهندسة التي كاد يحصل على شهادتها وحوَّل أوراقه إلى كلية الآداب ومرت شهور الزواج الأولى سعيدة وهادئة وأنجبت زوجتي طفلة ، فلم أعرف ماذا صنعت بها الولادة والإنجاب إذ كأنهما كانا خطًا فاصلًا بين مرحلتين في نظرتها إلى شقيقي فقد تغيرت تجاهه وبدأت تسئ معاملته وتسخر منه وتنهره إذا اصطدم بشيء وهو لا يرد ولا يشكو وإن كنت أرى الألم الصامت في ملامح وجهه ،

ثم بدأت تشكو لي من أنها لا تستطيع أن تنفرد بزوجها في حياة خاصة كما تفعل كل زوجة مع أنه شديد الحساسية ويلازم حجرته طوال فترة وجوده بالبيت ويتناول طعامه وحده بغير أن يشكو أو يتكلم وبغير أن تفارقه الابتسامة وزاد الأمر سوءًا بعد أن أنجبنا طفلنا الثاني وكان هو قد أنهى دراسته والتحق بعمل لا يدر عليه دخلاً بقدر ما يبقيه خارج البيت أطول فترة ممكنة فرارًا من زوجتي

أما بعد الظهر فقد كان يذهب معي إلى النادي أو إلى أحد الأصدقاء لأتركه معه ثم أعود لأصحبه في العودة وفي بعض الأحيان كان ينتظرني في السيارة بالساعات بلا ملل ولا شكوى وأنا أؤدي بعض أعمالي أو ارتباطاتي لكيلا يبقى في البيت فتتضايق منه زوجتي ورغم كل ذلك ازدادت معاملتها له سوءًا وازدادت تحذيراتها له بأن يلازم حجرته كلما جاء ضيف أو قريب لها وهو يستجيب بلا شكوى بل ويلتمس لها العذر .. وأنا أرى ألمه وعذابه وأتمزق وقد جربت معها كل الحيل باللين وبالخصام والشجار مرة أخرى بلا فائدة .. ثم بدأت زوجتي تغير النغمة في شكواها من شقيقي قائلة أنه يقاسمنا رزق أبنائنا !

وتألمت حين سمعت ذلك لأنها تعرف جيدًا أن الله يرزقني بأضعاف رزق زملائي مع أني لا أتميز عليهم بشيء مما يقطع أنه رزق هذا الشقيق الوحيد الكفيف .. وفي إحدى المشاجرات غادرت زوجتي البيت وطالبت بالطلاق إن لم أوفر لها شقة مستقلة أو أتخلص من شقيقي .. وحاول أخي أن يقنعني بأن ينفصل عني بأي شكل من الأشكال لكي تعود زوجتي إليَّ وتختفي أسباب النزاع لكني رفضت بإصرار .. وبقي الوضع معلقًا إلى أن جاء الحل غير المنتظر من عند الله سبحانه وتعالى ..

فقد جاءني عقد للعمل بإحدى الدول العربية لمدة 3 سنوات فاتفقت مع زوجتي على أن أسافر مصطحبًا أخي معي وتبقى هي مع الأولاد في مصر . حتى أستطيع أن أبيع شقتنا الحالية ونحصل على شقة أوسع من جناحين منفصلين أو على شقتين متقابلتين بحيث يستمر أخي معنا بغير أن تحس بوجوده مع أننا لم نكن نشعر أبدًا والله بأنه عبء علينا ، وسافرت مع شقيقي وتركت زوجتي وأولادي على أن أعود إليهم في أول أجازة ، ولم تمضِ عدة شهور حتى بدأت زوجتي تشكو من أنها لا تستطيع رعاية الطفلين وحدها وعاد أخي يناصرها ويكرر لي أن من حقها المشروع أن تلحق بي وتعيش معي تحت سقف واحد ..

رائج :   النظرات الغريبة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

فجاءت وأقامت معنا في شقة أصغر من شقتنا في مصر وبعد أسابيع فقط عادت المشاكل القديمة للظهور .. فهي تعتقد أن شقيقي يدفعني للتحامل عليها وهو والله شهيد على ما أقول لم يتكلم عنها مرة بسوء ، ودائمًا يمدحها ويدعو لها الله أن يجزيها خيرًا برعايتها له .. ويلتمس لها الأعذار إلى الحد الذي يضايقني أنا نفسي أحيانًا حين يُلح في الحديث معي عن حق كل زوجة في أن يكون لها بيت مستقل ولست أضيق رفضًا لذلك وإنما لأنه ماذا نفعل وهو لم يرد لنفسه ما حدث ولا أنا أردته .. وإنما هي أقدار لا حيلة لنا فيها ولماذا لا نتحملها جميعًا بلا شكوى !

ومضت الأسابيع على هذا المنوال حتى حدث أن اصطدم شقيقي أثناء تحركه في الشقة بإناء طعام فأرادت زوجتي فيما يبدو أن تمنعه من الاصطدام به فدفعته بعصبية وقسوة بعيدًا عنه ففقد توازنه وسقط أخي على الأرض .. ولم يمنع ذلك الإناء من الوقوع أيضًا .. فلم أتمالك نفسي ولم أدرِ إلا وأنا أصفعها وأخي يتحسس طريقه للنهوض ليقف بيني وبينها ويهدئ كلاً منا لكن هيهات فقد صممت زوجتي بعدها على مغادرة البلد الذي أعمل به عائدة مع الطفلين إلى بيت أهلها بمصر .. ولم أتحمل ما حدث فأنهيت عقدي بعد أسبوعين من رحيلها وعدت إلى شقتي ولم أتصل بها وأصرَّ شقيقي على أن يتدخل ويحاول الإصلاح بيننا وذهب إليها في بيت أهلها ليصالحها ويدعوها للعودة ولا أعرف ما حدث بينهما لكن المؤكد أنها جرحته وأهانته لأنه عاد وجسمه ينتفض من الألم ولم يقل سوى ربنا يهديها .. وبعد قليل أرسلت أمها بمطالبها النهائية والصريحة وهي : إما الطلاق وإما التخلي عن شقيقي !.

هذا هو الخيار الذي تضعني فيه زوجتي وأم أولادي يا سيدي .. بغير أن تعرف أني لا أؤدي تجاه شقيقي مجرد واجب ينبغي عليَّ أن أؤديه لكني أيضًا أحمل له مشاعر أخوية حميمة ولا أطيق أن يمر يوم لا أرى فيه وجهه الباسم ولا أسمع دعاءه لي بالتوفيق الذي يفتح لي أبواب السعادة .. ثم إني لست مجرد شقيق له بل أنا عيناه اللتان يرى بهما الدنيا فأصف له الشارع والناس والتليفزيون وكل شيء بل وأنا الذي يبقيه راغبًا في الحياة فإذا تخليت عنه فسوف تتدهور غالبًا صحته ويموت بالاكتئاب

كما أن ظروف عملي لن تسمح لي بزيارته بانتظام إذا انفصل عنا في حياة بعيدة ، ومن ناحية أخرى فلست أستطيع بالطبع أن أدع أولادي ينشأون ويتربون بعيدًا عني وأنا أكثر من يعرف أهمية دور الأب في حياة أبنائه .. فبماذا تشير عليَّ .. إنها تقرأ لك بانتظام .. فهل توجه لها كلمة تقول لها فيها أن رعاية الكفيف قد تفتح لها أبواب الجنة ، وأن أخي شديد الحساسية ومطالبه قليلة ومن السهل احتمال الحياة معه إذا شاءت ذلك .. ثم ماذا أختار إذا أصرت زوجتي سامحها الله على ألا يكون لي مهرب من الاختيار ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

بعض الكلمات تلسع فم الإنسان وهو ينطقها من فرط حدتها وقسوتها ومجافاتها لروح العدل والرحمة ! ولا شك أن شفاه زوجتك ما زالت محترقة من لسع كلماتها لشقيقك يوم مأساة اصطدامه بالإناء .. وأرجو ألا تكون أنت أيضًا قد حرقت شفتيك بلهيب مماثل من الكلمات القاسية لها .

وعلى أية حال فإني أرجو أن تكون الفترة الماضية قد ساعدت كلاً منكما على استعادة هدوئه واتزانه لتتوصلا معًا إلى حل عادل لمشكلتكما .

وفي البداية فإني أقول أن زوجتك لو فهمت معنى تمسكك برعاية شقيقك حق فهمه لما فرطت في عشرتك ولما آذت شقيقك ولما جعلت وجوده بينكما قضية يرتهن بها استقرارك العائلي وحق طفليك في الأمان والسلام ، لسبب بسيط هو أن الوفاء لا يتجزأ ولأن من كان وفيًا لشقيقه يكون وفيًا لمن تشاركه حياته وتتقاسم معه رحلة الحياة ..

بل إني أعجب كيف يحق لزوجتك أن تأمن على نفسها معك لو كنت قد تهللت لرغبتها وتلمست الأسباب للتنكر لشقيقك والتخلي عنه وهو من لا سند له في الحياة غيرك .. أليس الجحود نقيصة بشرية لا تفرق بين قريب وبعيد .. أوليس استسهال قطع الرحم ومجافاة الأهل خطيئة يمكن أن تمتد عدواها لمن يعاشرونه ولو بعد حين ؟ ثم كيف ترجو وفاءً ممن لا وفاء له لشقيق وحيد محروم من نعمة البصر تشابكت حياتك بحياته بخيوط الوحدة واليتم والألم ؟ .. بل كيف تأمن على نفسها مع رجل خلا قلبه من الرحمة إلى هذا الحد المفزع ؟

رائج :   العمر المسروق‏! .. رسالة من بريد الجمعة

إنك إن فعلت يا صديقي لكان ذلك أدعى لأن تخشاك زوجتك على حياتها ومستقبلها معك .. لكن غباءنا البشري يختزل أحيانًا الدنيا العريضة في دائرة ضيقة تتجمد أنظارنا عليها فنعمى عن باقي جوانب الصورة ولا نعرف أننا رغم كل شيء محاطون بأسباب مختلفة لاستشعار السعادة إذا أردنا ، أو لالتماس العزاء والسلوى عما ينقصنا .. أو للتعايش والقبول والتهادن مع ما لا يرضينا في حياتنا ،

ورغم تسليمي بحق زوجتك في أن تكون لها حياة خاصة مستقلة حين تسمح الظروف بذلك في المستقبل وفي موعده الطبيعي بغير إيذاء لأحد إلا أن اختزالها كل مشاكل الحياة في ظروف إقامة شقيقك معك قد حجب عنها عشرات الأسباب التي تدعوها للرضا بحياتها والسعادة بها كطفلين جميلين .. وزوج محب وفي .. وحياة مادية مستقرة ومستقبل واعد بالآمال ، وحتى بعض العناء الذي تتكفله في رعاية شقيق محروم وإن كان في حد ذاته فضلاً يتلهف عليه الفضلاء وقُربى يتقربون بها إلى الله ويحتمون بها من غدر الزمان ، إلا أنه في النهاية لن يدوم إلى الأبد ..

لأن التغير هو قانون الحياة الوحيد الذي لا يتغير وسوف يأتي يوم قريب بالتأكيد يتزوج فيه هذا الشقيق ممن تحبه وتحترمه ولا تتخلى عن فضل رعايته لغيرها .. وغدًا أو بعد غد سوف تستطيع أن تجد شقة أوسع من جناحين يستقل بأحدهما شقيقك .. أو شقة صغيرة ملاصقة أو مجاورة لشقتك لا تجعله يغيب عن رعايتك ، وشقاء البشر في كثير من الأحيان يتولد عن عجزهم الخروج من إسار مشاكلهم الصغيرة ليطلوا على الحياة بنظرة أشمل تضع هذه المشاكل نفسها في حجمها الطبيعي بالنسبة لمشاكل الآخرين ، وبالنسبة لما في حياتهم من أسباب أخرى تدعو للرضا والاطمئنان وأحسب أن هذا هو ما فعلت زوجتك حين جعلت من شقيقك معضلة تضعك بها أمام مفترق الطرق للاختيار بينه من ناحية وبين زوجتك وطفليك وهنائك العائلي .. مع أنها قد قبلت بظروفه منذ البداية .. وعرفت بالتأكيد بتضحياته السابقة من أجلك ومن أجل إتمام زواجك بها .

قد أفهم بعض أسباب الغيرة الأنثوية التي تحسها زوجتك أحيانًا لاهتمامك أو انشغالك بشقيقك وملازمتك له في بعض الأحيان لكني لا أفهم أبدًا أن تتحول هذه الغيرة إلى وحش لا إنساني يطالبك بالتنكر لهذا الشقيق الوحيد . إنك تستطيع بغير شك أن تعالج الأمر بحكمة وعدل وفهم أوسع للطبيعة البشرية .. وقد أطالبك في هذا المجال بأن تضاعف من تعبيرك عن مشاعرك العاطفية نحوها ومن محاولاتك لاشعارها بأنها “الاهتمام الأول” في حياتك مهما أبديت من اهتمام بأمر شقيقك ، كما تستطيع أيضًا أن تطمئن خواطرها بشأن المستقبل المادي لها ولأطفالك بشكل أو بآخر لتشعرها بأن ما قد تتكلفه لرعاية شقيقك مهما بلغ فإنه لن يؤثر على خططك لمستقبل الأسرة .. فهكذا ترضى بعض النفوس أحيانًا ولا بأس بتلمس الوسائل المشروعة لإرضائها لكن في كل الأحوال لا تتنازل عن آدميتك ونبلك ووفائك لشقيقك الوحيد المظلوم .

أما ما تطالبني به من أن أحدثها عن فضل رعاية الكفيف وأجره عند من لا تضيع عنده الأجور .. فالحق أني لا أجد في نفسي حماسًا للاستجابة له .. ليس زهدًا وإنما تعففًا عن تكرار الحديث عن البديهيات والفضائل التي لا يعني الإلحاح عليها إلا شهادةً علينا بأننا قد نسيناها .. لهذا فلن أطيل في الحديث عنها ولن أعيد تذكيرها بالحديث الشريف الذي يقول : “من لا يرحم الناس لا يرحمه الله” ولا بالحديث الشريف الآخر الذي يقول : “في كل ذات كبد رطبة أجر” كما لن أشير إلى المناسبة التي ورد فيها الحديث الأخير رعايةً لما بقي من المشاعر الإنسانية ..

لكني سأقول لها فقط وأرجو أن تتقبل مني ذلك بصدر رحب : إن عتاة المجرمين والقتلة يجفلون لفطرة غرسها الله في الإنسان من الإساءة للكفيف أو إيذاء مشاعره .. وأننا قد نرى أحيانًا قاتلاً بالأجر يهب بتلقائية لا تتوقف عند الأسباب ولا مفارقات لمساعدة أحد المحرومين من نعمة البصر إذا عرضت له مساعدته وهو في طريقه ليقتل نفسًا بشرية بغير حق .. فكيف بزوجة فاضلة وأم ترجو رحمة ربها وتسأله السلامة والأمان من شدائد الحياة لها ولطفلها في قادم الأيام مثلك ؟


لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …

مقالات ذات صلة