أجمل رسائل بريد الجمعة

النظرات الغريبة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أثارت رسالة الأمنية المستحيلة شجوني فرأيت أن أشركك معي في مشكلتي لعلي أجد لديك مايريح صدري ويساعدني علي اتخاذ القرار الصحيح‏,‏ فأنا طبيبة في التاسعة والثلاثين من عمري يشغل أبي وأمي منصبين مرموقين في المجتمع‏,‏ ولي أخ أكبر وأخت تصغرني‏ ..‏

وقد تمتعت بحياة مستقرة يرفرف عليها الحب في بيت أبي والتقيت وأنا في سنة الامتياز بطبيب كان وقتها مدرسا مساعدا‏,‏ وبالرغم من أنه قد تقدم إلي كثيرون من الزملاء فإنني وجدت قلبي يميل إلي هذا الطبيب بالذات‏..‏ وارتبطت به وتم زواجنا‏..‏ وطلب مني زوجي تأجيل دراساتي العليا لأنه يريدني إلي جواره عند سفره لنيل الدكتوراه‏..‏ فاستجبت له وسافرت معه وعشت معه أحلي سنوات عمري وكنت له كل شيء ـ الزوجة والمساعدة والسكرتيرة وعملت أيضا لأساعده براتبي علي ظروف الحياة في الغربة‏,‏ وأنجبت طفلة‏..‏

فبدأ مع ولادتها تغير زوجي بعض الشيء وأصبح يتسم بالحدة ويجرحني‏,‏ وعللت ذلك بضغوط الغربة وانشغاله بإنهاء رسالته‏..‏ وجاءت اللحظة الموعودة وحصل علي الدكتوراه وعدنا إلي مصر وزوجي يعدني بأن يعوضني عن جفاف الحياة خلال مرحلة الدكتوراه‏,‏ وأن نعيش معا حياة رغدة نتمتع خلالها بجني ثمار الشقاء وانتظرت هذه الحياة الرغدة فلم تأت وإنما بدأ زوجي يشعر بتميزه علي بدرجة الدكتوراه التي نالها‏,‏ فدفعني ذلك لأن أبدأ دراساتي العليا وحصلت علي الماجستير وبعدها علي الفور رزقت بطفلة ثانية‏..‏

وفوجئت بعدم مبادرة أحد من أهل زوجي بزيارتي للتهنئة بالمولودة‏,‏ وبدلا من ذلك اتصلت بي أخته تنعي لي حظ شقيقها الذي لا يطيق إنجاب البنات‏..‏ وشكوتها لزوجي فانهال علي سبا وتقريعا واتهمني بمحاولة التفريق بينه وبين أسرته‏.‏ومضت الأيام وأنا أحاول جاهدة أن أرضي زوجي لأنني أحبه بالرغم من كل عيوبه‏.‏ وهو يزداد عصبية يوما بعد يوم‏..‏ إلي أن حملت للمرة الثالثة وقررت هذه المرة ألا أتعجل معرفة نوع الجنين‏..‏ وأن أترك ذلك إلي موعده الطبيعي‏,‏ ولأمر ما اعتقدنا أنه لابد أن يكون ولدا هذه المرة فكان زوجي يذوب معي رقة وعذوبة‏..‏

وعشت أجمل فترات حملي إلي أن جاء يوم الولادة فإذا بها طفلة ثالثة فعرفت علي الفور أن طبول الحرب ستدق في حياتنا الزوجية‏..‏ وحدث ما توقعته‏..‏ وبدأ زوجي الذي أصبح شديد العصبية يفتعل المشاكل معي وأصبحت أبسط كلمة تصدر عني أو عن أحد من أهلي وأخوتي كافية لإثارة مشكلة كبري‏..‏ وامتنع زوجي عن زيارة أختي مهنئا حين أنجبت طفلا وبدأ يثير المشاكل مع أخي ا

لأكبر ثم مع والدتي ثم مع أبي وأنا حائرة بين الجميع أحاول ترضيتهم والتقريب بين وجهات النظر والحفاظ علي سفينة حياتي الزوجية طافية فوق الماء‏.‏

ومرض والدا زوجي فرعيتهما حق الرعاية حتي دعا لي والده دعاء صادقا قبل وفاته‏,‏ واعتقدت أن زوجي سيري الجانب المضيء في حياته وهو أن له أسرة تتمني رضاه‏..‏ لكنه لم يفعل وإنما حدث شيء أدركت معه أن شمس حياتنا معا تتجه إلي المغيب‏..‏ فلقد بدأ يشكو مني للجميع شكاوي ليست صحيحة ويروي عني أحداثا ليست حقيقية ويتهمني بإساءة معاملته وكأنما يرتب لادعاء أسباب قوية للانفصال بعيدة عن السبب الحقيقي الذي لا يريد التصريح به لأنه يعرضه للانتقاد وهو إنجاب الولد‏.‏ وبعد أن فضحني زوجي في كل مكان سلمت أمري فيه لله وأحتسبت حبي له عند ربي‏..‏

ولم يمض علي ذلك وقت طويل حتي اتصلت بي سيدة تبلغني بأن زوجي قد تزوج صديقتها التي تعمل سكرتيرة بأحد المستشفيات‏..‏ فطلبت من زوجي الطلاق وقلت له إنه لن يطول الوقت حتي يدرك حجم النعمة التي كانت بين يديه وتبطر عليها‏..‏ وحصلت علي الطلاق‏..‏ ولملمت شتات نفسي واحتضنت بناتي الثلاث وبدأت أواجه حياتي وأقداري‏..‏ وبعد عامين اتصلت أخت زوجي السابق علي غير عادتها ببناتي وبشرتهن بأن زوجة أبيهن حامل في ولد وأنه قريبا سوف يصبح لهن أخ ذكر‏..‏

وطلبت منهن إبلاغي بالخبر السعيد كي أستعد له بإعداد المغات‏!‏ وأبلغتني بناتي بما قالت عمتهن فشعرت بغصة شديدة في حلقي لنغمة الشماتة البادية في حديثها‏..‏ ورفعت رأسي إلي السماء شاكية‏,‏ ولم يقتصر الأمر علي ذلك وحده فلقد بدأ زوجي السابق حين يجيء لزيارة بناته يتحدث بلهجة المنتصر الذي أنصفه زمانه‏,‏ عن هذا الولد المنتظر وكيف ينبغي أن يجئن جميعا يوم الولادة لرؤية المولود السعيد إلخ‏..‏

وتحملت ذلك أيضا صابرة وفي الموعد المحدد أرسل زوجي السابق من يحضر بناته لرؤية المولود عند ولادته وذهبن إليه‏..‏ وفي المساء اتصل بي شقيق زوجي يطلب مني التوجه للمستشفي لاصطحاب البنات إلي البيت‏..‏ وبالرغم من أنني كنت أستطيع أن أطالبه بإعادتهن بنفس الطريقة التي أخذهن والدهن بها فإنني ذهبت للمستشفي‏..‏ فإذا بالجميع صامتون وينظرون لي نظرات غريبة‏..‏ فأخذت بناتي في صمت وانصرفت وركبنا سيارتي عائدين إلي البيت وفي الطريق سألتني ابنتي‏:‏ يعني أيه طفل مغولي يا ماما هل يعني ذلك أنه ليس مصريا‏!‏

فتوقفت بالسيارة علي الفور‏..‏ وأدركت سر صمت أهل زوجي ونظراتهم الغريبة لي حين دخلت عليهم في ممر المستشفي‏..‏ وبعد أن تمالكت نفسي عدت لقيادة السيارة إلي البيت وأنا أتعجب من تصاريف القدر‏,‏ هذا إذن هو المولود الذكر الذي باعنا وباع بناته من أجله‏!‏

وتوالت الأحداث بعد ذلك سريعة ومتلاحقة فلقد طلبت زوجة زوجي السابق منه أن يكتب كل ممتلكاته باسم مولودها لأنه أحوج من أخواته إلي المال وراحت تضغط عليه بشدة ليفعل ذلك وتتقدم إليه كل يوم بطلب جديد فلم يتحمل كل هذه الضغوط وارتفع ضغطه بشدة وأصيب بجلطة في المخ وغيبوبة‏..‏ ودعوت الله أن يفيق وأن ألتقي به لأعاتبه عما فعل بي ثم أسامحه‏..‏ فلم يتسع العمر لتحقيق هذه الأمنية ومات حبيب عمري وأول وآخر من نبض له قلبي قبل أن يحدث ذلك‏..‏

وتتابعت الأحداث فواصلت السكرتيرة الشابة إيجاد المشاكل وأعلنت أنها لا تريد رعاية هذا الطفل لظروفه الخاصة‏,‏ وراحت تعلل ظروف طفلها بكثرة تعرض والده للأشعة‏..‏ مع أن الله سبحانه وتعالي قد حمي بناته الثلاث من هذا الأثر‏..‏ كما راحت تتحدث أيضا عن أنه كان مريضا ولا يقوم بواجباته الزوجية كما ينبغي‏,‏ ولهذا فهي تريد أن تتزوج مرة أخري‏..‏ فتذكرت ما فعله سامحه الله حين اراد أن يمهد لزواجه منها من تشويه صورتي وإذاعة الافتراءات عني وأزددت تعجبا‏.‏

والآن يا سيدي فإني أريد أن أستشيرك في أمر مهم‏,‏ فلقد تزوجت السكرتيرة الشابة مرة ثانية وأصبحت إقامة طفلها موزعة بين بيوت أعمامه‏,‏ وحين يجيء لقضاء يوم أو يومين لدينا أجده في حالة يرثي لها‏,‏ فأهتم به أنا وبناتي حتي تعلقت به البنات كثيرا وتعلق هو بنا بشدة وأصبح موعد مغادرته بيتنا يبكيه بشدة‏..‏ وبناتي يطلبن مني الآن أن يعيش معنا أخوهن علي الدوام‏..‏ وأمي تقول لي أنه كنز يريد الله سبحانه وتعالي أن يفتحه في بيتي‏..‏ وتحذرني من رفض الهدية‏.‏ وأنا موزعة الفكر وحائرة‏,‏ فوجود الطفل يذكرني بغدر زوجي بي‏,‏ ولقد سامحته عن زواجه بغيري لكني لم أسامحه بعد علي الطريقة التي اتبعها في التمهيد له بالافتراء علي وتشويه صورتي ولن أسامحه إلا حين ألقاه أمام رب العرش العظيم‏..‏ فبماذا تنصحني؟

رائج :   نقطة البداية ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

يقول بعض أهل المعرفة إن الرغبة العارمة في الأشياء قد تبعدها عن المرء بدلا من أن تقربها منه‏,‏ وأن من واجب الإنسان أن يعتدل دائما في رغائبه وألا يغالي في التدبير لنيل ما يتطلع إليه لكيلا يجحد نعمة ربه عليه‏,‏ أو تغيب عنه الحقيقة الأزلية وهي أن ومن يتوكل علي الله فهو حسبه أي كافيه وحاميه وراعيه وناصره ومحقق أمنياته ورغائبه‏,‏ وليس أحدا سواه‏,‏ فإن كان له من حظه ما يرضيه سعد به وشكر ربه عليه‏,‏ وإن كان له من أقداره ما يترك مجالا للتمني صبر عليه ورضي به وأمل في تعويض ربه له‏..‏

بلا مغالاة في السخط والتمرد ولا في التدبير لتحقيق مايتطلع إليه‏,‏ ومتذكرا علي الدوام قول الحق سبحانه وتعالي لنبيه المصطفي صلوات الله وسلامه عليه واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا إذ كيف لا يصبر علي حكم ربه وهو ليس حكم أحد آخر فيشق عليه احتماله‏,‏ وإنما هو كما يقول الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري‏:‏ حكم سيدك القائم باحسانه إليك ويقول أيضا‏:‏ إن من حسن التدبير أن يسقط المرء التدبير مع خالقه ويرضي بأحكامه‏!‏

ثم ما هذا الذي استدعي من زوجك الراحل كل هذا التدبير والسخط والتمرد علي أقداره؟

هل انجاب ثلاث زهرات جميلات‏..‏ يشعن حولهن الحب والعطف والحنان ابتلاء يبرر له خيانة العهد‏..‏ والارتباط بأخري لكي ينجب منها الولد‏,‏ وهو الطبيب الذي يعرف أكثر من غيره أن نوع الجنين يحدده الأب بأكثر ما تفعل الأم‏,‏ ولو كان قد رضي عن حياته وعطايا السماء له لربما كان قد أنجبه من زوجته الأولي وأم بناته؟

ولأن القدر كما يقول لنا‏,‏ بن عطاء الله لا يجري حسب تدبيرك وإنما أكثر ما يكون ما لا تدبر وأقل ما يكون ما أنت له مدبر‏,‏ فقد شاءت ارادة السماء أن يكون الولد الذي تطلع إليه ودبر للفوز به هو مأساته‏..‏ والمعجل له بأقداره‏,‏ غفر الله له جحوده نعمة ربه وافتراءه علي زوجته الأولي بالباطل لكي يبرر لنفسه وللآخرين ما أقدم عليه‏..‏ والآن يا سيدتي فلقد دارت دورة الأيام وأصبح السؤال الذي تواجهينه الآن هو‏:‏ هل تستجيبين لرغبة بناتك في احتضان هذا الطفل المعذب وأيوائه وتنشئته بين أخواته وفي رعايتهن ورعايتك‏..‏ أم هل تستجيبين لمشاعرك الجريحة وترفضين هذا الطفل البريء لأنه يذكرك بغدر أبيه بك‏..‏ واساءته إليك وطعنته لقلبك الذي لم ينبض بالحب لغيره حتي الآن؟‏!‏

وجوابي علي هذا السؤال المحير هو أن هذا الطفل المعذب هو مسئولية أمه قبل أي طرف آخر‏,‏ وهي التي قبلت بأبيه زوجا لها وهي تعلم أنه زوج لأخري وأب لثلاث بنات صغيرات فإذا كانت قد تخلت عن مسئوليته خلال وقت قصير وتزوجت وانصرفت إلي حياتها الجديدة بلا تردد‏,‏ فإنه يصبح من بعدها مسئولية أعمامه وعماته الذين لم يبذلوا الجهد الكافي مع شقيقهم لكي يحفظ عليه زوجته الأولي وأسرته‏..‏ وربما يكونون قد أيدوه أو أيده بعضهم في موقفه منك بدليل موقف أخته الشامت منك عند حمل زوجته الجديدة وبشراها لبناتك بالاستعداد لاستقبال أخيهن الموعود‏.‏

وهذا هو الجانب المظلم من القصة‏..‏ أما إذا شئت أن تنظري إلي جانبها الآخر المضيء فلعلك ترينه في أن هذا الطفل المعذب بأقداره‏,‏ لم يجد بعد طول التدبير من أبيه الراحل وأعمامه وعماته ملاذا رحيما به وآمنا له إلا في كنفك وبين أحضانك وفي رعاية هؤلاء الزهرات الثلاث اللاتي تمرد أبوهن علي أقداره معهن‏,‏ وتطلع إلي الولد بعيدا عنهن‏,‏ فكأنما يرد الله سبحانه وتعالي إليك اعتبارك به‏..‏ وباحتياجه إليك وإلي أخواته ويمحو كل ما أفتراه عليك والده‏..‏ وهو إذن نصر من الله وفتح قريب‏,‏ وليس أي شيء آخر‏..‏

وتكريم من الله سبحانه وتعالي لك يشهد علي سماحتك وأصالتك وكريم خلقك وحسن رعايتك لبناتك وتنشئتك لهن علي الرحمة والعطف والقيم الدينية والأخلاقية‏,‏ بدليل عطفهن عليه وتحمسهن لضمه إلي أسرتكن وحرصهن علي الرفق به وصلة رحمه‏,‏ فإن اتسعت له رحمتك فلقد رحمت في النهاية أخا لبناتك لا يعلم إلا الله ما سوف يجزيك به عنه أنت وبناتك من خير وفضل عميم بإذن الله وعلي قدر الكرام تكون المكارم كما يقول لنا المتنبي‏.‏

وإن عجزت عن التجاوز عن مشاعرك الجريحة وما يذكرك به هذا الطفل المعذب من غدر أبيه وافترائه عليك‏..‏ فلا لوم عليك في الاعتذار عما تطالبك به بناتك وتشجعك عليه والدتك الفاضلة‏,‏ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏..‏ في النهاية‏..‏ ففكري في أمرك وافعلي ما تمليه عليك قيمك الدينية والأخلاقية وتسمح لك به طبيعتك بلا قهر ولا إلزام‏..‏ والله فعال لما يريد‏.

مقالات ذات صلة