أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

النظرة العميقة ‏! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة في العشرينيات من العمر علي قدر كبير من الجمال‏,‏ ومن أسرة فاضلة حظيت في احضانها بطفولة سعيدة‏,‏ وحياة هادئة بين أبي وأمي وإخوتي الثلاثة الذين يكبرونني‏,‏وقد تخرجت في كلية العلوم بإحدي جامعات الاقاليم وتقدم لي خطاب كثيرون لم أشعر تجاه احدهم بالقبول النفسي‏,‏ إلي أن تقدم لي شاب ما إن رأيته لأول مرة حتي شعرت بأنه الرجل الذي انتظرته طوال سنوات عمري‏,‏ وشعرت نحوه بميل شديد ورأيت فيه كل السمات والميزات التي ترجحه علي غيره من الشباب

فهو ضابط شاب وعلي خلق كريم ووسيم للغاية وقوامه فارع ويتمتع بخفة ظل وجاذبية لا تقاومان‏,‏ كما أنه وهو الأهم حنون وعطوف ورقيق المشاعر ويحظي بحب الجميع‏,‏ وتمت الخطبة وتعمقت الروابط بيني وبين خطيبي إلي حد أن شعرت بأن التطابق التام بيني وبينه في الافكار والآراء والرغبات‏,‏ وبعد عام وسبعة أشهر من الخطبة تم الزواج في حفل كبير كنا فيه معا أجمل عروسين‏,‏ وبدأنا حياتنا الزوجية فاكتشفت أن هناك أنهارا أخري من السعادة لم تكن في الحسبان وشعرنا بأننا نمسك بالسعادة بأيدينا‏,‏ وتوالت ايامنا الجميلة معا وزوجي الحبيب يغمرني بحبه وعطفه وحنانه ويغدق علي بكلماته الرقيقة عن هيامه بي وسعادته معي إلي حد أن تتلألأ عيونه بدموع الحب وهو يقول لي ذلك‏,‏ ومنه تعلمت كيف يكون التفاني في إسعاد الحبيب‏.‏

وكيف يكون العطاء الغامر له دون انتظار المقابل‏,‏ وافرط زوجي معي في كل شئ جميل فأفرط في حبه الذي جعلني أشعر بأن الحب قد خلق خصيصا من أجلي‏,‏ وفي اهتمامه بي الذي يفوق اهتمام الأم بوليدها‏,‏ وفي تدليله لي الذي أشعرني بأنني طفلته الوحيدة حتي أصبح بالنسبة لي العمود الفقري لحياتي وشخصيتي‏.‏

ومع كل هذه السعادة فقد كنا نشفق من أن يكون لها ثمن غال لكننا كنا نرجع إلي الطمأنينة حين نقول لأنفسنا إننا ندفع هذا الثمن بالفعل من خوف كل منا علي الآخر‏,‏ إلي حد الجنون‏,‏ وفي ذلك الكفاية كل الكفاية‏,‏ إلي أن جاء يوم واستعد زوجي للسفر إلي عمله كالعادة وودعني بحنانه الغامر ثم نظر إلي نظرة عميقة طويلة لم آلفها منه من قبل وقبلني وحمل حقيبته الصغيرة وخرج‏,‏ وجلست أنا في البيت انتظر مكالمته المعتادة لي بعد وصوله لمقر عمله ليطمئتي عليه ويخبرني كعادته بأنه يفتقدني ويشعر بوحشة شديدة في بعده عني‏,‏ لكن الانتظار طال هذه المرة بغير أن يرن جرس التليفون‏,‏

رائج :   ابتسامة الرضا ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وحين رن في النهاية كان النذير اللعين الذي نقلني في لحظة من السعادة إلي الجحيم‏,‏ فلقد تعرض زوجي لحادث تصادم مشئوم خلال سفره إلي عمله ونقل إلي المستشفي في حالة خطيرة‏,‏ وهرولت إليه هناك ورأيت آثار الحادث اللعين في وجهه الجميل وساقه المكسورة‏,‏ وتعلقت بالأمل في أن ينجو من المحنة ونرجع معا لاستئناف ايامنا الجميلة التي لم نرتو منها بعد‏,‏ لكن الأيام توالت ووجوه الاطباء لاتحمل لي اي بشير‏,‏ وبعد أسبوع قضاه في المستشفي صعدت روحه الطاهره إلي بارئها وقبل أن يختتم عامه الثامن والعشرين وبدلا من أن نحتفل بعيد زواجنا الأول في الفندق الذي شهد حفل زفافنا السعيد‏,‏ كما كنا نخطط قبل أيام قليلة احتفلت وحدي بهذه الذكري الحسيرة أمام قبره‏,‏ وأنا ارتدي السواد وقد نضبت دموعي من كثرة مابكيته خلال الأيام السابقة‏,‏

لقد كنت اخشي وأنا في قمة سعادتي أن تكون لهذه السعادة ضريبة فادحة‏,‏ لكني لم اتصور أن تكون هذه الضريبة هي وأد السعادة نفسها‏,‏ والحسرة عليها للأبد ومشكلتي التي اكتب لك عنها الآن هي اشتياقي الشديد إلي زوجي الحبيب الذي مازال عقلي الباطن يرفض أن يصدق أنه قد رحل عني إلي الأبد وميشتي له في كل لحظة من صحوي ونومي وفي انني قد فقدت الرغبة نهائيا في الكلام‏,‏ فاذا اضطرتني ضروريات الحياة إلي النطق ببضع كلمات فإني اشعر باختناق شديد بعدها وبرغبة عارمة في الصراخ‏..‏ كما أنني استجدي النوم كل ليلة بلا طائل فلا يزورني شبحه الا كل بضع ليال‏,‏ وإذا استسلمت له رأيت زوجي واستأنفت معه أيامنا الجميلة المنقضية وصحوت من غشيتي وأنا مجهدة كأنما كنت اصعد جبلا عاليا‏.‏

لقد قررت ان احيا مابقي لي من عمر علي وفائي له‏..‏ ولو أن ذلك وحده لن يفي بحقه علي‏,‏ لكني أريد أن استعيد قدرتي علي الكلام والنوم وتقبل الحياة لكي استطيع مواصلة المشوار وقد نصحني اهلي باللجوء إلي الطبيب النفسي‏,‏ لكني تذكرت انني وزوجي كنا في ايامنا الجميلة نقرأ بابك ونتبادل الرأي فيما تنشره فيه‏,‏ وأنه كان يقول لي عنك إنك كالطبيب النفسي الذي يعالج مريضه في جلسة واحدة‏,‏ فشعرت وكأنه ينصحني بأن الجأ إليك انت لكي تقول لي كلمة تعينني بها علي الحياة فارجو الا تبخل علي بها والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏

رائج :   الهواية المشينة .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

توقفت في رسالتك الحزينة هذه أمام أشياء كثيرة‏,‏ لكني اطلت الوقوف فيها امام هذه النظرة العميقة التي وجهها إليك زوجك الراحل قبيل خروجه إلي قدره المحتوم وكأنما كان يملأ بها عينيه منك قبل أن يغيب عنك إلي الأبد‏!‏

وتجددت تأملاتي الحائرة لما يقال عن هذا الشعور الغامض الذي يراود بعض ذوي الشفافية بقرب النهاية وكأنهم يسمعون دون غيرهم انغام الرحيل فهل يكون زوجك الشاب قد سمع هذا النداء الغامض وهو يودعك قبيل خروجه إلي قدره المقدور‏!

‏ ام تري أننا نفسر احيانا بعض اشارات الاعزاء الراحلين عنا بما يتوافق مع اقدارهم الحزينة فيما بعد‏,‏ وحزننا الشديد عليهم؟

لقد روي الشاعر الألماني جوته في إحدي قصائده ان طفلا كان يسير إلي جوار ابيه فانتابه الفزع فجأة وتعلق بصدر ابيه ليحميه من صوت خفي يغريه بأجمل الهدايا والألعاب كلما يذهب إليه ويمضي معه‏,‏ فظن الأب حديث ابنه هزلا ولم يأخذه مأخذ الجد‏,‏ يكن اراد ان يطمئنه فحمله علي صدره وراح يهدئ روعه طوال الطريق فما إن بلغ به باب البيت حتي كان الطفل قد فارق الحياة‏!‏

غير اني علي اية حال لا أريد أن استسلم لخواطري وتأملاتي بعيدا عن رسالتك المحزنة وأقول لك فقط ان بعض البشر قد تعوضهم السماء عن قصر رحلتهم في الحياة بأن تجعل سعادتهم فيها حقيقية ومكثفة‏,‏ فكأنما قد عاشوا بقدر سعادتهم هذه حياة عريضة وممتدة‏,‏ وكثيرون من البشر يتفقون مع الرسام الإيطالي الشهير موديلياني حين قال‏:‏

اتمني ان احيا حياة قصيرة ولكن حافلة وسعيدة‏!‏

غير أننا لا نختار لأنفسنا اقدارنا‏,‏ وإنما نحيا حياتنا كما ارادتها لنا السماء‏,‏ ونمضي عنها حين تؤذن شمس العمر بالمغيب‏.‏

رائج :   الشىء الواضح ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وفي كل الاحوال فمن واجبنا أن نتقبل حياتنا ونتواءم معها ونعين انفسنا علي اجتياز المحن والفترات العصيبة التي تعترضها بأقل الخسائر النفسية والصحية الممكنة‏.‏

وليس كالإيمان بالله سبحانه وتعالي والتسليم المطلق بقضائه وقدره من معين للإنسان علي اجتياز اوقاته العصيبة والتطلع لما بعدها من جوائز السماء للصابرين والمبتلين‏,‏ والإيمان الصحيح كما يقول الاستاذ مصطفي صادق الرافعي هو بشاشة الروح واعطاء الله الرضا من القلب ثقة بوعده ورجاء لما عنده‏,‏ ومن هذين يكون الاطمئنان‏.‏

وإذا كنا لا نستطيع ان نقتلع الاحزان من نفوسنا‏,‏ بمجرد الرغبة في ذلك‏,‏ فاننا نستطيع علي الجانب الآخر مراوغتها وتضييق الحصار عليها بالتشاغل عنها والاندماج في النشاطات المختلفة التي تصرف الذهن إلي غيرها من شئون الحياة بعض الوقت‏.‏

وأفضل ما يشغل العقل عن احزانه هو العمل والانغماس في النشاطات الاجتماعية والعائلية والوجود بين الآخرين ومراودة النفس علي مشاركتهم اهتماماتهم والاستجابة لمحاولاتهم الطيبة لشغل المحزون عن احزانه‏,‏ وتجنب الوحدة لفترات طويلة وتفادي الفراغ من كل عمل أو نشاط‏,‏ لأن الطبيعة ضد الفراغ‏,‏ كما تقول لنا مبادئ علم الطبيعة‏,‏ ولأن العقل البشري كلمبات الكهرباء المفرغة من الداخل إذا ثقبت تسلل إليها الهواء علي الفور وشغل فراغها‏..‏ وكذلك العقل البشري الذي إذا خلا تماما مما يشغله تسلل الهم والفكر إليه وشغلا كل فراغه‏.‏

اما الحياة فلسوف تمضي في طريقها المقدور لها سواء تقلبنا اقدارنا فيها وتواءمنا معها أم لم نفعل‏,‏ غير أنه من واجبنا تجاه انفسنا دائما أن نركب قطار الحياة مهما تكن العثرات وألا نتجمد عند احزاننا إلي مالا نهاية‏.‏

ففكري في كل ذلك واجعلي من ذكري السعادة الغالية مع زوجك الراحل دافعا جديدا لك للحياة فنحن نستعين كذلك بذكري السعادة علي تحمل الأحزان وقد نغبط انفسنا في بعض الأحيان إن كانت لنا في سابق الأياام ذكريات سعيدة وجميلة‏,‏ ولم تكن حياتنا خالية تماما من كل عزاء‏,‏ كما أن الاعزاء الراحلين لا يسعدهم أبدا ان نهلك بعدهم حزنا عليهم‏,‏ وانما تطمئن ارواحهم في ملكوت السماء حين نواصل الحياة من بعدهم في شجاعة ونصمد لآلامها في صبر‏.

مقالات ذات صلة