أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

المصنع الكبير .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب إليك رسالتي هذه لعل فيها ما يفيد كثيرين غيري لهم نفس ظروفي, فلقد تخرجت وتزوجت وسافرت للعمل بإحدى الدول العربية فعملت فيها 25عاماً ورزقت بأبنائي الخمسة وهم ثلاث بنات وولدان ثم آن أوان العودة فعدت إلى بلدي ..

ولم تكن لي فيه وظيفة بعد هذا الغياب الطويل عنه, فحاولت إنشاء مشروع تجاري صغير .. لكنه لم ينجح لانعدام الخبرة وخسرت فيه مبلغاً من مدخراتي فأوقفته وقررت الاحتفاظ ببقية المدخرات في البنك لنعيش بأرباحها وواجهت حياة الفراغ التام بعد سنوات العمل والكفاح الطويلة،

ووجدت نفسي ولا عمل لي سوى شرب الشاي وتدخين السجائر وأداء بعض المهام البسيطة كإصلاح السيارة عند الميكانيكي حين تتعطل أو الذهاب إلى المصالح الحكومية التي نحتاج إليها , في حين تقوم زوجتي بكل شئون البيت والأسرة والأبناء من خدمة البيت إلى أعمال المطبخ إلى مراجعة مدارس الأولاد في المناسبات المختلفة إلى القيام بالواجبات الاجتماعية والعائلية السعيدة, وكنت أراها مشغولة طوال اليوم بما لا ينتهي من أعمال وواجبات وأنا جالس في البيت بلا عمل فأشعر تجاهها بضيق شديد ,

وأرى دائماً أنها مقصرة في حقي ولا تعطيني ما أنا في حاجه إليه من الحب والحنان والرعاية , وبعد تفكير قصير قررت أن أتزوج مرة أخرى لأجد ما أبحث عنه من حب وحنان , واكتشفت إحدى بناتي نيتي تلك فراجعتني فيها طويلاً وناقشتني بحرارة واهتمام شديد ورجتني ألا أفعل ذلك حتى لا أشقي به أمها وأخوتها, وتراجعت عن نيتي إرضاء لها في النهاية..

لكن ذلك قد زاد من ضيقي بزوجتي رغم حبي لها .. ورسخ لدي الاعتقاد بأننا شخصين مختلفان تماماً ولا التقاء بيننا وأصبح لا هم لي إلا إحصاء عيوبها وأخطائها ووجوه تقصيرها وتوجيه النقد اللاذع لها في كل مناسبة.

ثم حدث أن اضطررت الذهاب إلى النادي ذات يوم مع ابنتي وبينما أنا جالس إذا بي استمع بالمصادفة إلى شكوى إحدى السيدات لصديقتها من زوجها وكيف أنه لا يساعدها في شئ على الإطلاق من شئون البيت والأسرة .. ولا يشاركها في أي عمل يتعلق بدراسة الأولاد وأعمال البيت أو الطهي والتنظيف أو العلاقات والواجبات العائلية,

وكيف أنه لا عمل له في النهار أو المساء إلا استرخاء أمام التلفزيون أو قراءة الصحيفة أو التحدث في التليفون إلى أمه أو أخته, فإذا بصديقتها تنصحها بالصبر على ظروفها وتقول لها أن كل العائدين من الدول العربية ولا يعملون بمصر على هذا الحال, فاصبري من أجل بناتك .. وظل رجل ولا ظل حائط .. في النهاية؟

وشد ما سمعت انتباهي وأثار تأملاتي وأفكاري , ثم حضرت ابنة أخي لقضاء فترة عندنا وفي نهايته تقدم إليها شاب يعمل بالدولة العربية وابن صديق لي ففوجئت بها ترفضه بشدة وتقول بغير أن تشعر أنها تلطمني بذلك من حيث لا تدري أنها تريد شريك حياة بمعنى الكلمة وليس “خيال مآتة” وإن معظم من يسافرون لفترات طويلة للعمل بالخارج يصبحون بعد عودتهم “خيالات مآتة” في أسرهم يقدمون للأسرة المال فقط ولا يشاركون الزوجة في شئ من شئون الأسرة أو الأبناء والحياة وهي لا تريد شريكاً من هذا النوع وإنما تريد رجلا تعيش في أحضانه ويشاركها حياتها وحياة أبنائها وشعرت بخنجر دام في قلبي ..

وتذكرت حديث سيدة النادي وتفكرت فيه وفي حديث ابنه أخي طويلاً ثم قررت شيئاً مهما هو ألا أظل “خيال مآته” في حياة زوجتي وأسرتي وأبنائي بعد ذلك أبداً , ونفذت قولي فبدأت أولا بتوصيل بناتي إلى حيث يردن الذهب لشراء شئ أو لزيارة الطبيب أو الصديقات ووجدت في ذلك عملا أسعدهن كثيرا وقربني منهن , ثم بدأت أشاركهن في شراء طلباتهن من المحلات ولاحظت ابتهاجهن الشديد بمصاحبتي لهن في ذلك وتورد وجهن وهن يسألني في المحلات :

ما رأيك يا بابا في هذا الشئ أو ذلك ثم بدأت أشارك زوجتي في اهتماماتها العديدة بشئون البيت والأسرة والجيران والعائلة وشراء الطلبات المختلفة فإذا بها تبتهج لهذا الاهتمام المفاجئ من جانبي كثيراً وتسعد به وتختفي نظره الحزن السابقة من عينيها وتحل محلها نظرة لامعة بهيجة وشجعني ذلك على مزيد من المشاركة لها في شئون البيت والأسرة فإذا بي اكتشف حقيقة مهمة كانت غائبة عني طوال السنوات الماضية هي أن أي بيت يرعى عدداً من الأبناء هو في حد ذاته “مصنع كبير” المرأة فيه هي المدير والعامل والساعي وكل شئ ..

رائج :   فتاة من قاع المدينة .. رسالة من بريد الجمعة

إن هذا المصنع لا يتقيد بساعات العمل الرسمية ولا تنتهي احتياجاته وشئونه ومشاغله كما أن كل أعمله مما يبدع فيه الرجال وليس النساء وحدهن وهكذا وجدتني في اهتمامات عديدة ولا نهاية لها مع مشاركتي لزوجتي في كل شئ من شئون الأسرة وقد شاركتها أولا في طهي الملابس بعد جمعها من حبال الغسيل ثم كيها وترتيبها في الدواليب ثم استهوتني المشاركة فشاركتها في كل شئ حتى في تنظيف الخضار , وفي اختياره ثم بدأت أصنع المربات المختلفة ..

والمخللات وأجد لمذاقها طعما مختلفاً عن الأخرى التي كنا نشتريها من الأسواق , بل لقد قررت أيضا حياكة البنطلونات والقمصان التي نستخدمها في البيت ولم أجد في ذلك صعوبة كبيرة كما توهمت من قبل, فقد فككت بنطلوناً جاهزا وفصلت عليه قماش الخياطة فإذا بي قد صنعت بنطلوناً جديداً وممتازاً وزوجتي تساعدني في كل ذلك بحماس وتضاحكني وتعلق على ما أفعل بتعليقات ظريفة ومشجعة وتقدم لي “المشورة الفنية” كلما احتجت إليها ..

فوجدت لدهشتي ما نتحدث فيه طوال النهار ونضحك له بعد أن كان حبل الوصال بيننا قد انقطع تماما ولم يبق إلا أن نعلن طلاقنا, وإذا بها تصارحني بأنها كانت تعطيني دائما كل الحب والحنان لكنها لم تكن تجد لدي إلا الصد والإيلام فقررت ألا تشحذ مني الحب مرة أخرى, لكنها الآن سعيدة بي وبمشاركتي لها حياتها وحياة أبنائها, وقد أثمر تشاركنا معا في البيت ثمرات عملية أخرى فاستغنينا عن الشغالة ثم المكوجي ..

ولم نشعر بأي نقص وتذكرت كيف كنت أقضي كل أوقاتي في خمول لا يشغلني فيه إلا انتقاد زوجتي وشعرت بالخجل الشديد من نفسي وقررت أن أكتب إليك هذه الرسالة لأعترف لك بكل ذلك عسى أن يستفيد بها غيري ممن يجدون أنفسهم في نفس وضعي السابق فيكفر بذلك بعض ذنبي السابق وتقصيري في حق زوجتي وأبنائي ,

ذلك أنني على ثقة من أن كثيرين من أمثالي الذين تقاعدوا من العمل في سن النضج والعطاء والذين عادوا من الدول العربية ولم يمارسوا عملا أو نشاطاً في مصر وإنما يواجهون نفس المشكلة التي واجهتها بعد عودتي من الخارج ويجلسون في بيوتهم ساخطين متذمرين ويعيشون في فراغ تام من كل عمل فلا هم يتقبلون أي عمل وأي مرتب يعرض عليهم ولا يتناسب مع أوضاعهم السابقة, ولا هم يمارسون في بيوتهم وفي حياة أسرهم أي دور أو عمل يشغلهم ويشعر أسرهم بمشاركتهم لها في حياتها ..

وإلى كل هؤلاء أوجه نصيحتي لهم بأن يشاركوا زوجاتهم في شئون المصنع الكبير الذي تديره الزوجة وحدها وأن يشاركوا أبناءهم شئون حياتهم اليومية والدراسية وألا يخجلوا من مشاركة زوجاتهم في أبسط الأعمال المنزلية فلقد كنت أترفع من قبل عن مشاركة زوجتي أي عمل من هذا النوع وكنت أرى زوجتي وأولادي ينظفون الخضار مثلا  ويضحكون ويتسامرون وأنا أنظر إليهم من بعيد كأنني لست منهم أو كأنهم أسرة مترابطة وأنا غريب عنها ..

فأصبحت الآن أشارك زوجتي تنظيف الخضار وأعجب بموضوعات الكلام التي تتفتح خلال ذلك ولضحكنا السعيد أثناءه بعد أن كانت الساعات الطويلة تمضي بغير أن أجد ما أقوله لها أو تقوله لي, وإذا كان بعض الرجال يخجلون من مشاركة زوجاتهم أعمال البيت فليفعلوا ذلك في السر وبعيداً عن أعين الجيران إذا شاءوا .. إذ المهم هو أن يكون الإنسان سعيداً بالمشاركة والحب ..

وليس بأي شئ آخر وهذه هي نصيحتي لكل زوج يشعر بالغربة في بيته أن يشارك أسرته حياتها وألا يكتفي بموقف المتفرج على أفراد أسرته من بعيد ثم يندب حظه بعد ذلك لإحساسه بغربته عن زوجته وأولاده وبعدهم عنه وبعده عنهم .. فالحب والحياة الاجتماعية هما مشاركة وتآلف واعتياد وكل ذلك يفجر الحب والسكينة والرحمة في النفوس , والسعادة بين أيدينا إذا أردناها وسعينا إليها بإخلاص لأن القوامة للرجل على أسرته لكننا عكسنا الآية وظننا كما يفعلون في الغرب أنها بأيدي النساء ..

رائج :   الصفحة القديمة ! .. رسالة من بريد الجمعة

فتركنا لهن وحدهن كل شئون البيت والأسرة والمدارس والواجبات والمجاملات العائلية وظننا أن كل ذلك ليس مما يليق بالرجال فلا نحن سعدنا بهذه الغربة عن زوجاتنا ولا هن سعدن بها .. وإنما اعتبرت أزواجهن خيالات مآته وندبن حظوظهن وشكون منها وبعدن عن أزواجهن نفسياً وعاطفياً ومعنوياً باستغراقهن التام في إدارة المصنع الكبير الذي يستنفد كل طاقتهن فلا يبقى لديهن ما يقدمنه بعد ذلك للأزواج من حب وعطف وحنان .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ولــكاتب هــذه الرسـالة أقــول (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :

أقرب ما يكون الإنسان إلى الفهم الصحيح لحقائق الحياة وإلى العدل والحق والرحمة حين يكون صادقاً مع نفسه.

ويبدو أنك يا سيدي كنت في هذه الحالة النادرة من الصدق مع النفس التي حين راجعت حياتك وموقفك من زوجتك وأبنائك وخلصت من المراجعة إلى إدانة موقفك السابق منهم والعدول عنه إلى الموقف العادل منهم ومن حياتك معهم بشكل عام.

وقليلا ما يفعل الإنسان ذلك للأسف .. ذلك أنه من صفات النفس الإنسانية أن يميل الإنسان غريزيا للرثاء لنفسه ولإعفائها من كل لوم  للاستنامة إلى إتهام الآخرين ولومهم واعتبار نفسه ضحية لهم في معظم الأحيان.

وحين يرتفع الإنسان عن هذا الميل الغريزي لإعفاء نفسه من كل لوم أو شبهة تقصير في علاقته بالآخرين , فإنه يكون قد وضع أقدامه على الطريق الصحيح للتواصل معهم ولفهم الحياة واستعادة القدرة على الاستمتاع بها, فبعض أسباب تعاسة الإنسان إنما تكمن في عجزه عن التواصل مع الآخرين لاعتقاده “الراسخ” بتقصيرهم في حقه .. ولاكتفائه بموقف الانتظار العاجز أن يبادروا هم بتقديم القرابين إليه وتصحيح موقفهم منه متغافلا في ذلك عن مسئوليته هو عما آلت إليه الأحوال بينه وبينهم.

ولقد أصبت جوهر الحقيقة حيت تنبهت إلى أنه ليس من العدل “أن تتبرم بالجليد المتراكم على باب جارك قبل أن تزيل ما تراكم منه على عتبتك أنت أولاً” كما يقول لنا فيلسوف الصين كونفوشيوس وحين أدركت أن ما تراكم على عتبتك أنت من الجليد إنما يفوق أضعاف ما تتصور أنه قد تراكم على باب زوجتك .. فبادرت بإزالته .. وشاركتها حياتها واهتماماتها الصغيرة ..

واكتشفت أنها إنما كانت وحدها تدير مصنعا كبيرا لا تنتهي أعماله.. ولا تفرغ من واجباته الثقيلة في نهاية اليوم إلا وهي حطام جسدي ونفسي قد تعجز معه عن تقديم أي عطاء معنوي لك في معظم الأحيان, فخرجت من موقف المتفرج اللائم بالحق أو الباطل على الدوام إلى موقف الشريك في تحمل عبء إدارة هذا المصنع معها, ووجدت السعادة والبهجة في ممارسة بعض مهامه ومشاغله الصغيرة والمفيدة ..

واكتشفت خلال ممارستك لذلك الكثير من المتعة والاهتمامات المشتركة التي تخلق موضوعات جديدة للحديث والمسامرة مع زوجتك وتعيد نسج ما انقطع من خيوط نسيج الحياة المشتركة بينكما , فماذا جد حتى تفجر نبع الحب والحنان من جديد في قلب زوجتك تجاهك وفي قلبك تجاهها , إنكما نفس الشخصين اللذين انقطع حبل التواصل بينهما , وتوصلت إلى يقين راسخ أنكما شخصيتان مختلفتان ولا التقاء بينكما وأوشكت على الزواج من أخرى؟

لقد جد تطور مهم وجوهري في علاقتك بها. هو أنك قد قفزت إلى النهر الذي كانت زوجتك تلاطم أمواجه وحدها .. طوال السنوات الماضية في حين تجلس أنت على الشاطئ مسترخيا ملولا مكتفيا بانتقاد طريقة سباحتها ومغالبتها لهذه الأمواج فما إن فعلت ذلك حتى اكتشفت ما كانت تبذله زوجتك من جهد لإبقاء سفينة الأسرة طافية فوق الماء وشاركتها هذا الجهد.. وشعرت بمتعة السباحة والمشاركة في قيادة هذه السفينة إلى بر الأمان.

ولا عجب في ذلك يا سيدي ولا غرابة فالفراغ التام من كل شغل أو اهتمام أو مسئولية أو حتى هواية هو أقصر طريق يسرع بالإنسان إلى التعاسة والشقاء ومن صفات النفس كما يقول لنا المفكر الفرنسي مونتسيكو أن تظل في تفكير مستمر.

ولأن الطبيعة ضد الفراغ .. فإنك إذا ثقبت لمبة الكهرباء المفرغة من الهواء لم تبق خالية منه للحظة واحدة وإنما تسرب الهواء إليها على الفور.

وكذلك العقل البشري فإنه إذا خلا من الانشغال بأي اهتمام تسربت الأفكار السلبية والسوداوية غالباً إليه وشعر الإنسان بالسأم والملل والتعاسة فإذا كنا قد عرفنا من أن صفات النفس أنها تميل غالبا لإعفاء نفسها من كل لوم .. فلن يبدو أمراً غريباً أن تميل بالتالي إلى البحث عن مسئول خارجي عن تعاستها لكي تتهمه بالمسئولية عنها وتدينه بالتقصير في حقها وفي ظروفك أنت فلقد كان هذا المسئول الخارجي بالضرورة هو زوجتك فرحت تتهمها بالتقصير في حقك وتتفنن في استقصاء عيوبها وأخطائها وتبدع في توجيه النقد اللاذع المؤلم لها.

ولم يكن نقدك لها تعويضا نفسيا لك فقط عن إحساسك بالعجز عن إدخال السعادة إلى قلوب أبنائك وزوجتك كما تتصور , وإنما كان أيضا لأن من طبيعة من لا يشغله عمل أو مسئولية أو مشاركة من أي نوع في مباراة الحياة أن يلتفت للصغائر والتوافه التي لا يلتفت إليها غيره من المشاركين في “المباراة” وأن “يبدع” في انتقاص جهد الآخرين العارقين واكتشاف أخطائهم وتضخيمها .. ولم لا يفعل ذلك وهو يجد من فراغ الوقت ما يسمح له برؤية ما لا يراه الآخرون من عيوب وأخطاء صغيرة .. وكيف لا يجد من يرغب في التنقيب عن أخطاء الآخرين أي خطأ في عملهم ولو كان بسيطاً .

ومن طبيعة من يعمل أن يخطئ وأن يصيب في حين لا يخطئ الناقد بالطبع لأنه لا يعمل من الأصل ولا يتعرض لامتحان التجربة والخطأ الذي يتعرض له الآخرون خلال عملهم كل لحظة.

والسعداء حقا يا صديقي هم من يستطيعون أن يستشعروا السعادة في أبسط الأشياء والمشاغل والاهتمامات وبعض الفلاسفة يقولون لنا إننا محاطون بأسباب البهجة والسرور من كل جانب لكن السعداء منا وحدهم هم الذين يستطيعون تذوقها والاستمتاع بها في حين يعجز المصابون بفشل الروح عن أن تتحرك مشاعرهم بالاستجابة لأي مثير يدعو للبهجة والسرور ولا يجدون حولهم إلا كل ما يثير الهم ولو كان يبعث البهجة في نفوس الآخرين.

وتجربتك مع الفراغ القاتل من قبل وفشل الروح السابق خير دليل على ذلك فلقد وجدت الآن في أبسط الأشياء ما يثير البهجة في نفسك, وما تؤديه باستمتاع ويشعرك بالرضا والمشاركة والسرور بإسعاد أبنائك وزوجتك ونصيحتك لكل من يعيشون حياة الفراغ التام بأن يشاركوا زوجاتهم ومشاغلهم الصغيرة ,نصيحة ثمينة ومفيدة بكل تأكيد.

فمن واجب كل إنسان حالت الظروف بينه وبين مواصلة العمل والعطاء تجاه نفسه أن يعيش حياة “الفراغ السعيد” وليس حياة الفراغ القاتل المدمر للنفس وللآخرين من حوله .. والفراغ السعيد كما يقول أديبنا العظيم نجيب محفوظ على لسان إحدى شخصياته هو غاية الحياة الإنسانية المثلى التي يكافح الإنسان ويعمل سنوات طوالا لكي يصل إليها مع خريف العمر فيستمتع معها بالحياة الحقيقة التي لا يحتاج الإنسان لأن يعمل لكسب الرزق وإنما للمتعة وتأكيد الذات,

وشغل الفراغ وحين يرى أن من حقه أن يستمتع بكل متع الحياة البريئة بعد سنوات الكفاح  واللهاث وراء الأشياء والأهداف فيشغل نفسه بكل ما يحب أن يمارسه من أعمال ومهام وهوايات وصداقات وشئون عائلية وإنسانية بغير دافع سوى الرغبة في أداء هذه الأعمال والمسئوليات وليس دافع الاضطرار أو الاحتياج المادي ..

إن حياة “الفراغ السعيد” لمن يستحقها بعد طول العطاء هي حلم كل إنسان سوي على ظهر الأرض وهي أيضاً صورة مصغرة من حياة الموعودين بجنة السماء حيث لا يعمل الإنسان إلا ما يحب أن يعمل ويستمتع بكل ما تهفو إليه نفسه, فإذا كان البعض قد أتيحت له بعض هذه الحياة على سطح الأرض بعد انتهاء رحلتهم مع الكفاح والعطاء فما بالهم يرفضون هدية السماء هذه إليهم ويتذمرون ويشقون ويحيلون حياتهم وحياة ذويهم إلى جحيم!  

  • نشرت عام 1996
  • من أرشيف جريدة الأهرام

رائج :   التمثال .. قصة قصيرة

مقالات ذات صلة