تاريخفكر و ثقافةوعي

نيلسون مانديلا .. أيقونة كفاح || الجزء الخامس

مانديلا حر .. جملة من كلمتين تردد صداها فى كل صحف العالم وقتها .. بث تلفزيوني مباشر شاهده ملايين الأشخاص على مستوى العالم .. كان هذا هو أكبر نصر للأفارقة السود في جنوب إفريقيا .. ليس براءة مانديلا و لكن إجبار السلطة البيضاء المتغطرسة على الإعتراف بحق السود فى الإنتخاب .. فى الحرية .. فى الحياة .. مانديلا فقط كان رمزاً للإنتصار لا أكثر .. اعتبر الأفارقة مانديلا أيقونة لدفاعهم عن حقوقهم ..

المفاوضات بين الطرفين كانت شاقة بالفعل .. استمرت لثلاث سنوات على الأقل .. أعمال العنف استمرت خلال تلك السنوات و إن كانت وتيرتها قلت .. غياب الثقة بين الطرفين كان واضحاً .. ما حدث على مدار عقود طويلة لن يمحى بسهولة بكل تأكيد .. البيض كانوا خائفين من ضياع امتيازاتهم و أموالهم .. على الطرف الأخر عانى السود من ظلم و قهر مبالغاً فيه على مدار عشرات السنين ما جعلهم متحفزين لفرض إرادتهم و شروطهم .. كل تلك العوامل جعلت المفاوضات شاقة فكل طرف يريد فرض إرادته .. درجة التحفز بينهم كانت تتصاعد يوماً بعد يوم .. هذا الوضع كان يستدعى وجود رجلاً يستطيع تهدئة الأوضاع و نزع فتيل الأزمة قبل إنفجارها مرة أخرى .. رجلاً لا يتنازل عن حقوق عرقه الأصيلة دون إلغاء للأخر حتى و إن كان مخطئاً .. مانديلا كان أنسب شخصاً لتلك المهمة ..

الفترة الطويلة داخل السجن إما أن ينتج عنها رجلاً ناقماً غاضباً يرغب بالإنتقام ممن ظلموه و إما ينتج عنها رجلاً متسامحاً يرغب فى البناء لا الهدم .. لحسن حظ جنوب إفريقيا أن مانديلا كان متسامحاً .. بل قل إنه متسامحاً زيادة عن المتوقع .. تسامح مانديلا كان أكثر شيء تم انتقاده من الأحزاب المعارضة و حتى من شباب حزبه الثوري ..

صورة مانديلا الثورى التى حفروها في عقولهم على مدار عقود رأوا مكانها صورة ذلك الشيخ الذي يدعوهم إلى التعامل مع البيض على أنهم مواطنين جنوب إفريقيين .. يدعوهم إلى التعايش وقبول الآخر و كانت وجهة نظره تعتمد على أن الإستمرار فى الثورة هو دعوة لهدم الوطن .. صورة مانديلا الشيخ العجوز اختلفت كثيراً عن مانديلا الشاب الذى كان يحرق بطاقة مروره علناً نكاية فى ذلك النظام الذى يدعوهم الآن للتعايش معه ..

وجهة نظر مانديلا بقبول الأخر كانت بديهية و لها أسبابها فالبيض فى جنوب إفريقيا كانوا جيلاً ثانياً أو ثالثاً أو حتى رابعاً لجيل المستعمرين الأوائل .. هؤلاء مواطنين انقطعت صلتهم ببلدهم الأم تماماً و ولدوا و ترعرعوا فى وطن جديد اعتبروه وطنهم .. تعلموا و عملوا و جنوا ارباحاً و لم يحولوها لوطنهم الأصلي .. صارت جنوب إفريقيا هى وطنهم الأم ..

رائج :   سد النهضة الأثيوبي … القصة وما فيها

أصبحوا أفارقة بيض إن شئت الدقة و إن تم التضييق عليهم و سحب كل امتيازاتهم منهم فهم بذلك يدعون للقيام بحرب أهلية لأنه وقتها البيض لن يدافعوا عن امتيازات سياسية قد تزيد أو تنقص بالمفاوضات و لكنه سيدافع عن بيته و أسرته و ثروته و كل ما يملك حرفياً .. التعايش معاً داخل دولة واحدة كانت وجهة نظر مانديلا و اثبتت وجهة النظر تلك صحتها بعد فترة على الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى سلميته المفرطة ..

تم الإتفاق على إنتخابات رئاسية فى 1994 تشمل كل طوائف الشعب و أعراقه .. إنتخابات نتج عنها إنتخاب مانديلا رئيساً كأول رئيس أسود لجنوب إفريقيا بعد أن فاز بنسبة أصوات 62 % و فاز حزب المؤتمر الإفريقى بـ 7 ولايات من أصل 9 فى حين فاز الحزب الوطنى بولاية وفاز حزب الحرية ( إنكاثا ) بولاية أخرى .. اختير دى كليرك و تابو مبيكى كنائبين لمانديلا .. تحول مانديلا إلى رجل دولة بعد أن كان ثورياً على مدار عمره .. لم تكن له تجربة سابقة فى إدارة الدولة لكنه أصر على منح وعوداً وردية خلال جولته الإنتخابية .. كان همه الأكبر المصالحة و مراعاة الطبقة الفقيرة ..

من النقاط البيضاء فى تاريخ مانديلا هو مسامحته لكل من آذوه على المستوى الشخصى بل و عرضه التعاون معهم من أجل مستقبل أفضل لجنوب إفريقيا وحث الشعب الجنوب إفريقي على الاحتذاء به و مسامحه كل من أساء إليهم .. هذا لم يمنعه من إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة والتي عنت بالتحقيق فى الجرائم التى أرتكبت فى ظل النظام السابق .. لتسريع وتيرة التحقيقات قامت اللجنة بإصدار عفو عن كل من يدلى بشهادته حول الجرائم التي ارتكبت .. قامت اللجنة بوظيفتها و حوكم المسئولين عن تلك الجرائم ..

بخلاف ما سبق ساهم مانديلا فى رأب الصدع بين البيض والسود حين قام بتشجيع الفريق الوطني للرجبي سبرينج بوكس .. ذلك الفريق الذى لم يكن يُسمح للسود بالمشاركة فيه و كان يراه مانديلا أحد أبرز مظاهر التفرقة العنصرية .. أصبح مانديلا رئيساً و معها شمل تسامحه ذلك الفريق فقام بتشجيعه و حضر المباراة النهائية لكأس العالم التي استضافتها جنوب إفريقيا على أرضها و سلم الكأس لقائد الفريق وقتها فرانسوا بينار .. جنوب إفريقيا تطوي صفحة الماضى و من الواضح أنها تسير للأمام ..

رائج :   التواجد السوري في مصر .. إضافة ولا زيادة أعباء ؟؟

عقود من الظلم ثم عقود من المواجهات المسلحة أضرت بلا شك باقتصاد البلد الإفريقي الفقير أساساً .. مانديلا حكم جنوب إفريقيا و هى فى أوهن حالاتها .. البيض لم يتركوا الحكم إلا بعد أن تأكدوا أن المبنى قد أوشك على السقوط .. كانت مهمة مانديلا شبه مستحيلة إقتصادياً .. تلك الإستحالة جعلته يقلص الوعود الإشتراكية التى لوح بها فى برنامجه الإنتخابى .. الوضع بالفعل كان مأساوى ..

  • 45 % من الشعب كان تحت خط الفقر .
  • 58 % كانوا يفتقرون إللى الكهرباء و الصرف الصحى .
  • 30 % بدون إمدادات مياه نظيفة .
  • 35 % نسبة الأمية .
  • 33 % نسبة البطالة .
  • 20 % من الميزانية خصصت لسداد الديون القديمة .

البيض كانوا قد أفسدوا البيئة الإقتصادية تماماً حتى صار شبه مستحيل إرجاعها لحالتها مرة أخرى .. كان أمام مانديلا خياران .. إما سياسات ليبرالية و بالتالى تشجيع المستثمرون الأجانب على العودة مرة أخرى إلى السوق و إما سياسات إشتراكية قد تأكل ما تبقى من الإحتياطات النقدية .. إختار مانديلا السياسات الليبرالية مع عدم إغفاله لحقوق الفقراء .. بحلول نهاية فترة مانديلا كان هناك الكثير مما يقال ..

  • رفع مستوى المنح والمعاشات و قام بتوزيعها بعدالة على كل الأعراق .
  • رفع مخصصات الرعاية الاجتماعية بنسبة 33 % في 3 سنوات .
  • فعل نظام التأمين الصحى للأطفال دون 6 سنوات و للنساء الحوامل مجاناً .
  • إيصال خدمة الهاتف إلى أكثر من 34 مليون مواطن .
  • تم إلحاق 1.5 مليون طفل إلى المدارس .
  • ضم 2 مليون شخص إلى شبكة الكهرباء .
  • توصيل المياه إلى 3 ملايين شخص .
  • بناء و تجديد أكثر من 500 مؤسسة صحية .
  • بناء 750 ألف منزل ساهمت فى توفير مسكن لأكثر من 3 مليون مواطن .
  • تم تمكين عشرات آلاف من المواطنين من استرداد أراضيهم التى نهبت منهم فى عهد النظام السابق .
  • تم حماية مستأجري الأراضي الزراعية و ضمان عدم طردهم من أراضيهم المؤجرة عن طريق قانون الإصلاح الزراعى .

مانديلا لم يخطط أبداً لفترة رئاسية ثانية .. سنه الكبير و حالته الصحية التى تأثرت بفترة السجن الطويلة كانت تحتم عليه أن يترك الفرصة لغيره .. فى عام 1997 ترك رئاسة الحزب لتابو مبيكى الذي سيخلفه في مقعد الرئاسة عام 1998 .. فترة رئاسية لاقت قبول نسبى و أيضاً لاقت إنتقادات .. مانديلا لم يكن ملاكاً أُنزل من السماء .. كان مجرد رجل عانى الكثير و حاول قدر استطاعته تخفيف آلام شعبه ..

رائج :   مراد بيه .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

طالته انتقادات بسبب محاباته للبيض و محاولاته الدائمة لكسب ودهم تحت دعاوى المصالحة .. إنتُقد بسبب زيادة معدلات الجريمة التى كانت وصلت إلى معدلات قياسية .. انتقد لعدم مكافحته لمرض الإيدز الذي انتشر بشدة فى فترة رئاسته حتى صار 10 % من إجمالى الشعب مصاب بذلك المرض اللعين على الرغم من الإهتمام بالبنية التحتية الصحية .

بعد إنتهاء فترة رئاسته توجه إلى العمل العام و صارت مؤسسة نيلسون مانديلا الخيرية هي أكبر اهتماماته الذى أدارها مع زوجته الثالثة جراسا ماشيل .. إهتم بالشئون السياسية الإفريقية مثل توسطه في محادثات السلام فى بوروندى و محاولة إقناع روبرت موجابى رئيس زيمبابوى بالإستقالة .. أيضاً أدلى وآراؤه فى قضايا عالمية مثل حرب العراق و الصراع الفلسطينى الإسرائيلى .. و قبل كل هذا كانت سياسة وطنه جنوب إفريقيا تحتل الجزء الأكبر من اهتمامه .. مانديلا كان نشيطاً على الرغم من كبر سنه واعتلال صحته ..

رحلة طويلة قضاها ذلك الرجل فى محاولة القضاء على العنصرية فى بلده تحمل فيها كثيراً من الصعاب و قابلته كثيراً من التحديات .. لم يكن وحده بالتأكيد و لكنه كان أبرز المعارضين و أكثرهم شهرة و تحدياً للسلطة .. نيلسون الصغير الذى كان يرعى الماشية فى مراعى كونو ..

الشاب و الرجل المنتمي لقوميته الإفريقية .. المحامى و المعارض الشرس لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية .. الكهل الذى سجن ل 27 عاماً ظلماً و لم يتنازل يوماً عن مطلبه الشرعى بإعطاء الحرية لشعب جنوب إفريقيا .. رحلة أنهكت ذلك الجسد النحيل و قد آن له أن يرتاح .. حان وقت وداع مانديلا ..

نحن الآن فى يونيو 2013 .. أصيب بأزمة رئوية كان قد أصيب بها سابقاً فى 2011 .. تفاقمت الأزمة أكثر .. لم يفق من غيبوبته لأيام .. مرت الشهور ثقيلة على مانديلا و محبيه .. بعد أقل من 6 شهور و تحديداً فى 5 ديسمبر 2013 توفى مانديلا متأثراً بأزمته الرئوية عن عمر يناهز 95 عاماً .. رحل مانديلا فى هدوء تاركاً وراءه إرثاً غنياً سيتحدث عنه الناس لقرون ..

نيلسون روليهلاهلا مانديلا الشهير بـ ماديبا نسبة لأحد أجداده الملوك .. رحل موحداً شعب جنوب إفريقيا بدون تفرقة و بدون تمييز و بدون فضل فئة على فئة .. بسبب كفاح مانديلا ورفاقه جنوب إفريقيا الآن تضع أقدامها على طريق الرخاء الاقتصادي و المناخ السياسى السليم .. كفاح ذلك الرجل لم يذهب هباءاً ..

لم يذهب هباءاً بلا أدنى شك ..

مقالات ذات صلة