تاريخ

الحرب العالمية الثانية .. الجزء الثاني || التجهيز للحرب

( فلتحل اللعنة على من لا يتحملون فلسفتى .. أما الذين يقدرونها حق قدرها فقد كتب عليهم أن يصبحوا سادة العالم )

 فريدريك نيتشه

نيتشه هو الفيلسوف الملهم بالنسبة إلى هتلر .. فلسفته هى ما شكلت فكره بالكامل تقريباً .. فلسفة قاسية قوامها التخلص من الضعف البشرى .. القوى يحكم و يسود و الضعيف إما أن يستجيب و يطيع و إما أن يموت .. القوى يتوسع و يهيمن على مقاليد الأمور و الضعيف يجب أن يسمح بذلك إما طوعاً أو كرهاً ..

اليمين الألماني خشي من اليسار .. هتلر كان أكبر المعادين لليسار سواء شيوعيين أو حتى اشتراكيين .. اليمين وجد فيه حائط الصد الأول ضد اليسار فضغطوا على الرئيس هندنبرج لتعيينه مستشاراً لألمانيا مع إحاطته بالمحافظين من كل جانب لتحجيمه .. ظنوا أن هتلر قابل للتحجيم .. كانوا يظنون أن النازية توجه سياسى عادى يستطيعون التعامل معه لو أحاطوا قائدها بمجموعة من المحافظين اليمينيين .. لم يظنوا لحظة أن النازية هى أسلوب حياه أقرب للعقيدة لا يمكن أن يتخلى أحد عنها بسهولة .. خاصة قائدها .. أدولف هتلر

هتلر كان وعدهم بالديكتاتورية .. وعدهم بإزاحة كل تلك الأحزاب من طريقه و لكنهم ظنوا أنها تهديدات سياسية لا أكثر .. الحقيقة هتلر غير وجه السياسة الألمانية كلياً .. وافق هتلر على التشكيل الوزارى و مع أول فرصة أتيحت له بدأ فى اتخاذ الإجراءات التى لم يكن أشد المتشائمين يتوقعها ..

– أغلق صحف المعارضة .. و منع إجتماعات أحزاب اليسار ..

– فبراير 1933 تم إحراق مبنى البرلمان و تم إلصاق التهمة باليسار و بالتالى مزيداً من الإجراءات التعسفية ضدهم ..

– أصدر أوامر بإعتقال نواب برلمانيين يساريين و إلغاء الحصانة البرلمانية و تفتيش بيوتهم و التنصت على مكالماتهم مع منع التجمعات بكل أشكالها ..

– عطل البرلمان و نقل صلاحياته إلى ديوان الحكومة أى إليه شخصياً ..

– عين القضاة بناءاً على ميولهم السياسية مع إصدار قانون #العقيدة_النازية الذى حرر القضاة من القوانين السابقة و أعطاهم حرية إتخاذ قرار الإعدام فى حالة شعور القاضى بوجوب ذلك ..

– إعتقال رجال الدين و إلغاء إستقلالية الكنائس الكاثوليكية و البروتستانتية .. و فصل أساتذة الجامعات الرافضين للفكر النازى ..

– تم تجريم الإضراب .. و من يضرب أو يساعد على الإضراب فمكانه معسكرات الإعتقال ..

– تسكين رجال النازية فى كل المناصب القيادية ..

– حل الأحزاب المعارضة كلها و أعلن الحزب النازى حزباً وحيداً فى البلاد ..

– جمع وظيفتى رئيس الجمهورية و المستشار فى وظيفة واحدة و عين نفسه فيها و أطلق عليها الإسم الذى سيلقب به حتى وفاته الفوهرر أو الزعيم ..

النازية آمنت بالقوة و بالتدرج الطبقى و أن الجنس الآرى على رأس قائمة الأعراق و أن أسفل القائمة يضم اليهود و أصحاب البشرة السمراء و السلافيين و حتى الجنس الآرى نفسه يجب تصنيفه حسب معيار القوة .. قوة الذكاء و القوة البدنية و القوة المالية .. هتلر أراد تحويل عنصر الكرامة المهدورة إلى طاقة دافعة و أن الشعب الألمانى لو أطاعه فسيكون يوماً ما على رأس أوروبا ثم على رأس العالم أجمع .. قائمة التدرج الطبقى كانت فى حد ذاتها دافعاً من وجهة نظره ..

رائج :   صلاح الدين والدنيا

إن أردت القوة فعليك امتلاك أدواتها و بهذا وضع هتلر نصب عينيه هدفين هما القوة الحربية والقوة الإقتصادية .. مخطط تجهيز الجيش سراً كان سارى حتى من قبل وصول هتلر إلى السلطة و لكن الفارق أن الحكومة السابقة لم تعطيه الأولوية و أيضاً كان إرتباط الاقتصاد الألمانى بالاقتصاديات الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة وثيقاً ما جعل وتيرة التقدم بطيئة جداً .. هنا أدرك هتلر أنه إذا أراد الإنتقام فعليه الإسراع فى وتيرة تجهيز الجيش و أيضاً استقلالية القرار الاقتصادي ..

المعادلة كانت صعبة بالفعل على هتلر فدولته مديونة بمبلغ خرافى و شعبه فقير و نسبة البطالة عالية و الموارد قليلة و الصناعة و الزراعة شبه مدمرة و فوق هذا كله أنت يجب عليك تجهيز جيشك و جعله القوة الأولى عالمياً إن أردت الإنتقام ممن فعلوا بك كل هذا .. هنا توجب على هتلر الإستعانة برجل اقتصادي يفهم ما يفعله و فى نفس الوقت ينفذ أحلام هتلر بالتوسع فى الإنفاق العسكرى .. هيلمار شاخت .. هتلر عين هيلمار شاخت كرئيس للبنك المركزى النازى رايخبانك و هدفه كان هو التوفيق بين الإنفاق الأساسى على الشعب و بين الإنفاق العسكرى مع أولوية الإنفاق العسكرى ..

ألمانيا طبقاً لمعاهدة فرساى كان مفروض عليها حجم إنفاق عسكرى لا يجب أن تتخطاه و ذلك لتحجيم قدراتها العسكرية .. أيضاً كان مفروضاً عليها نسبة فائدة قليلة و ذلك لمنعها من إصدار سندات حكومية بفائدة عالية فيحدث إقبال على شرائها فتجد تمويل لخططها العسكرية .. 

شاخت اقترح إجراء غير قانونى و لكنه كان ضرورى عبارة عن إنشاء شركة للبحوث المعدنية سميت إختصاراً ميفو لتكون ستاراً لتمويل الحكومة الألمانية فقامت الشركة بإصدار سندات بفائدة عالية إكتتبت بها شركات كبيرة أخرى ثم قامت الحكومة بإقناع تلك الشركات بتأخير سحب أرباحهم و استثمارها فى السندات مرة أخرى مستفيدة من ارتفاع سعر فائدتها و بالتالى استفاد هتلر بمبالغ وصلت فى عام 1939 إلى 21 مليار رايخ مارك و ذلك بخلاف المتداول فى السوق و كان حوالى 12 مليار .. بهذا حقق مخطط هيلمار شاخت هدفه فهو وفر سيولة كبيرة لإستخدامها عسكرياً بالإضافة إلى تقليل نسب التضخم .. جدير بالذكر أن الشركة كانت وهمية و لا نشاط فعلى لها ..

رائج :   أزمة سد النهضة .. إزاي وصلنا ” للطريق المسدود ” ؟ و الحلول المطروحة ؟

سندات ميفو لم تكن الحل السحرى للإقتصاد و لكنها كانت ضرورية .. التحدى كان أكبر أمام هتلر و حزبه و كان يجب تنفيذ برنامج اقتصادى حقيقى يقوم على أسس تحسن الأرقام الضعيفة للاقتصاد و عليه نفذ هتلر برنامجه على عدة محاور :

– يحق للأفراد التملك بالتأكيد و يحق له إنشاء مشروعه الخاص و لكن يجب أن يكون تحت إشراف الدولة فتم إستحداث نظام يسمى نظام #الزعامة فيكون لكل نشاط صناعى أو تجارى زعيم يوجه المجموعة لأنسب طرق الإستثمار بما يتلائم مع مصلحة الدولة ..

– الإقتصاد تأثر بعلاقته الوثيقة بأمريكا فكان التوجه النازى هو عزل الإقتصاد عن العوامل الخارجية و العيش على الإنتاج المحلى مع تقليل الإستيراد لأقل حد ممكن ..

– مع إنغلاق السوق محلياً صار سعر العملة يحدد طبقاً لما يقابله من إنتاج لأن العملة صارت بمعزل عن الذهب و عن عامل الإستيراد و التصدير و أى عوامل أخرى قد تؤثر على قيمتها ..

– تم توجيه السوق إلى الإنتاج الصناعى و تقليل الإنتاج الإستهلاكى مثل مصنع سيارات#فولكس_فاجن أو سيارة الشعب و إستخدام المواد الأولية المتوفرة محلياً ما قلل الإحتياج لعملة صعبة لم تكن متوفرة لألمانيا وقتها ..

– تم تثبيت الحد الأدنى للأجور و زيادة أجر الساعة للعاملين بالإنتاج الصناعى بالذات ما شجع على إحتواء تلك المشروعات لعدد كبير من العمالة المتعطلة ..

– قد تظن أن إجراء مثل هذا قد يجعل المنتجين يبتعدون عن النشاط الصناعى لإرتفاع تكاليفه و لكن هذا غير ممكن فى ألمانيا النازية فإختيار نشاط المشروع حق أصيل للدولة لا يستطيع أى صاحب نشاط أن يرفضه ..

– تم مراقبة أسعار السوق مراقبة صارمة جداً مما ساهم فى ثبات أسعار المنتجات و السلع فخلال 5 سنوات كاملة من 1933 : 1938 زادت الأسعار بنسبة 13 % فقط لا غير ..

– أشرفت الدولة إشراف كامل على الزراعة و وفرت سبل الأمان للمزارع عن طريق تحديد حد أدنى لسعر المحاصيل و أيضاً نسبة ربح مناسبة له و لتاجر الجملة و التجزئة و الموزع بالإضافة لتوفير كل مستلزمات تحسين المحصول .. كان الهدف هو توفير بنية تحتية زراعية جيدة تكفى الشعب بعد بدء الحرب حتى لا تقع ألمانيا فى نفس خطأ الحرب الأولى عندما تعرضت لنقص فى المواد الغذائية ..

– تم إقناع السيدات فى ألمانيا بالبقاء فى المنزل ورعاية الأطفال و ترك أماكنهم بالعمل للرجال و تم استحداث جائزة الوسام الصليبى للأم التي تنجب 4 أطفال و أكثر بالإضافة إلى مكافأة 1000 مارك مما ساهم فى تقليل فجوة البطالة بالتدريج ..

– ألزم الحزب النازى نفسه بتوفير عملاً لكل مواطن ألمانى و لكن مقابل ذلك العمل فالدولة هى من تختار العمل و ساعاته و أجره دون أى إعتبار لرغبة العامل نفسه و إن لم يرد العامل فعليه البقاء متعطلاً و الرضا بمعونة البطالة التى كانت أقل كثيراً من الراتب و هو ما أدى فى النهاية إلى إنتهاء البطالة تماماً و صار سوق العمل الألمانى يحتاج إلى عمالة من الخارج ..

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (٦) : الخطة “فجر” الموءودة في الفجر

– زيادة الصادرات قدر المستطاع لتوفير العملة الصعبة لإستيراد ما ينقصها من المواد الخام النادرة و إستبدالها إن أمكن ببديل متوفر فى الأراضى الألمانية أو فى الدول المجاورة مثل النمسا و تشيكوسلوفاكيا ..

على الرغم من تطبيق الإجراءات السابقة إلا أن المشكلة على الأرض لم تحل جذرياً .. نعم تم تقليلها .. و نعم تم حل مشكلة البطالة .. و نعم ثبت الحزب أرجله تماماً و أمسك مفاصل الاقتصاد بالكامل .. لكن لازال هناك نقص نسبى فى السلع و لازال الفقر هو السمة الغالبة على الشعب .. تعامل هتلر و الحزب النازى على أنهم فى حالة حرب منذ اليوم الأول فكل السياسات الإقتصادية السابقة يتم العمل بها و لا تعتبر غريبة و لكن فى حالة الحروب أما هتلر فقد أقرها فى حالة السلم لتحقيق أسرع إستفادة ممكنة ..

مع زيادة الضغوط الاقتصادية اضطر هتلر إلى تخفيض بند الإنفاق العسكرى نسبياً و هو ما أزعج بعض القادة الألمان البارزين و على رأسهم هيرمان جورينج وزير الطيران و فيرنر فون بلومبيرج وزير الحرب لأنه بهذا لن يستطيعوا تنفيذ مخططهم العسكرى فى وقته ..

فى العام 1937 بدأت الضغوط الإقتصادية تزيد .. السوق يعمل بكامل طاقته لكن لازال الإنفاق العسكرى يستنزف كل الموارد المتاحة و الشعب بدأ يشعر أن الوضع الإقتصادى و إن تحسن إلا أنه لازال هناك سلبيات و التململ منها موجود و إن لم يظهر للعلن .. كان يجب على هتلر القيام بعمل خارجى يجمع الفئات المتذمرة تحت راية واحدة .. راية الوطن ..

فى أكتوبر عام 1937 صرح هتلر لـ جوزيف جوبلز مسئول الدعاية فى الحزب النازى أنه مريض بآلام شبه دائمة بالمعدة و أيضاً بالإكزيما و أنه يخشى الوفاة مبكراً قبل أن يرى حلمه على الأرض .. كان لابد له من بدء خطته التى سعى إليها من قبل حتى وصوله للسلطة .. كان يرغب فى التوسع شرقاً فى البداية .. عينه كانت على بولندا .. تحديداً دانزج .. بعد أقل من عامين من ذلك التاريخ سيكون له ما أراد .. ها قد بدأت الحرب .. حان وقت دفعهم للثمن .. و سيدفعونه باهظاً بالتأكيد .. هذا ما دار فى رأس هتلر وقتها ..

مقالات ذات صلة