المشهد الأول:
الزمان:
الجمعة ٢ يونيو ١٩٦٧، الساعة التاسعة مساء.
المكان:
مكتب المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الدور السادس، مبني القيادة العامة بمدينة نصر، القاهرة.
الحضور:
جمال عبد الناصر، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومعاونوه ومستشاروه، ومنهم: أنور السادات، رئيس مجلس الأمة؛ وحسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية؛ وزكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهورية؛ وعلي صبري، الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي.
كما حضر الاجتماع المشير عامر ولفيف من شلته ومنهم: شمس الدين بدران، وزير الحربية؛ والفريق صدقي محمود قائد القوات الجوية، ومساعدوه؛ واللواء علي عبد الخبير، مدير الأركان بالقيادة العليا.
كما حضر الاجتماع أيضا الفريق أول محمد فوزي، رئيس أركان القوات المسلحة؛ والفريق أنور القاضي، رئيس هيئة العمليات؛ واللواء محد صادق، مدير المخابرات الحربية؛ ورؤساء الهيئات العسكرية وبعض مديري الإدارات.
ولكن تغيب عن هذا الاجتماع، الفريق صلاح محسن، قائد القيادة الشرقية أي قائد الجيش الميداني؛ والفريق عبد المحسن مرتجي، قائد الجبهة الشرقية ؛ والفريق جمال عفيفي، رئيس أركان القوات الجوية.
وبغض النظر عن أسماء الحضور وتوزيعهم فيما بين جماعة الرئيس وشلة المشير، يتضح من خلفياتهم الوظيفية أن هذا المؤتمر كان مؤتمرا سياسيا عسكريا. وكان الغرض الأساسي منه، كما سأوضح لاحقا، توصيل رسالة من الساسة للعسكر تتعلق بطريقة إدارة المعركة القادمة.
هذا المؤتمر تناولته الكثير من الأقلام بالوصف والتحليل (فوزي، حرب الثلاث سنوات، ص ١٢٢-١٢٤؛ صلاح الدين الحديدي، شاهد على حرب ٦٧، ص ١٦٩-١٦٢؛ ممدوح أنيس فتحي، مصر من الثرة إلى النكسة، ص ٣٦٣-٣٦٤)، ولكن من أهم الشهادات الحية عنه تلك الشهادة التي أدلى بها الفريق صدقي محمود، قائد القوات الجوية، للجنة تسجيل ثورة ١٩٥٢ التي عقدت عام ١٩٧٦ والتي ترأسها حسني مبارك، نائب رئيس الجمهورية وقتها.
شهادة الفريق صدقي محمود محفوظة في سجلات دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة ولكن لم يُفرج عنها بعد، إلا أن مقتبسات منها نُشرت في كتاب صدر عام ٢٠٠٠ بتحرير سليمان مظهر وعنوان اعترافات قادة حرب يونيو: نصوص شهاداتهم أمام لجنة تسجيل الثورة.
في هذا الكتاب يقول الفريق صدقي: “أنا أعترض على استعمال كلمة مؤتمر [للإشارة لهذا الاجتماع]، لأن أنا طلبت المشير عبد الحكيم عامر قبل المغرب بالتليفون، قال لي “يا صدقي، إذا كنت فاضي تعالى لنا شوية .” ذهبت، وكان معي من الناس الذين يعملون معي في المكتب الرائد حسين عبد الناصر [أخو جمال عبد الناصر] .
دخلت مكتب سيادة المشير، وكما تعرف توجد قاعة للمؤتمرات والاجتماعات كبيرة، وعليها كل الخرائط. لكن لا. كان الجلوس حول مائدة صغيرة: أنور القاضي، اللواء عبد الخبير، اللواء صادق، وأنا.
وبعد فترة حضر شمس بدران. كان الكلام كلامًا عاديًا وعامًا عن القوات البرية وأوضاعها… وفي ذلك الوقت فوجئنا بأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فتح الباب ودخل، وبدأ يتكلم كلام عام، وبعدين قال والله دلوقتي أنا بشوف إن احتمال الحرب بقى كبير قوي.”
أيا كان توصيف هذا الاجتماع، “قعدة” أم “مؤتمر”، فقد أكد عبد الناصر فيه أننا قد كسبنا المعركة السياسية، وأن إسرائيل قد خسرتها على طول الخط. ولكن من الناحية الأخرى فإن الظروف الدولية تحتم علينا ألا نتبع إستراتيجية عدوانية حتى لا نضحي بموقف أمريكا و باقي الدول الكبرى منا.
كما أكد عبد الناصر أن احتمالات الحرب قد أصبحت ١٠٠٪ بعد تعيين موشى ديان كوزير دفاع في إسرائيل وتشكيل حكومة حرب هناك.
وبعد أن تساءل عن موعد وصول القوات العراقية للجبهة الأردنية وفهم أن هذه القوات يُتوقع وصولها بعد ثلاثة أيام، استنتج عبد الناصر أن إسرائيل لن تنتظر حتى تصل هذه القوات العراقية للجبهة بل ستبدأ العمليات العسكرية ضدنا بعد يومين أو ثلاثة، وفي الأغلب ستهجم على مطاراتنا في صباح يوم الإثنين المقبل، ٥ يونيو.
ومن الملابسات الفريدة أن قرارًا بنفس هذا المعني كان قد اتُخذ بالفعل في إسرائيل قبل ذلك بساعات قليلة.
ففي الساعة التاسعة صباح نفس اليوم، الجمعة ٢ يونيو ، اجتمع الساسة مع العسكر في القدس، واستمع الوزراء لتحليل الضباط عن الموقف ولخططهم لتدمير القوات المسلحة المصرية عن طريق عملية تعرضية.
وكان هناك تململ من بعض الساسة، وعلى رأسهم ليفي إشكول، رئيس الوزراء، بأن الهجوم على مصر قد يكون متعجلا، وأنه يجب عدم استثارة الولايات المتحدة ببدأ الحرب.
ولكن وزير الدفاع، ديان، حسم النقاش بأن قال إن أي تأخير في الهجوم قد يساعد المصريين على استكمال خططهم الدفاعية، ولذا يجب التعجيل بالهجوم. وبالفعل قرر ديان، وأبا إيبان، وزير الخارجية، وإيجال آلون، نائب رئيس الوزراء، ويعقوب هيرتزوج، مدير مكتب رئيس الوزراء، وإسحق رابين، رئيس الأركان، اتفقوا فيما بينهم على أن يبدأ الهجوم قبل نهاية يوم الإثنين ٥ يونيو.
وعندما عُرض القرار على مجلس الوزراء بكامله يوم ٤ يونيو، أعطي الضوء الأخضر لبدء القتال بضرب المطارات المصرية بين الساعة الثامنة والتاسعة صباح اليوم التالي، وكان هذا التوقيت مبنيا على اقتراح قائد القوات الجوية، موردخاي (موتّي) هود، الذى قال إن هذا هو أنسب وقت لأن الطيارين المصريين من عادتهم تناول إفطارهم في تلك الساعة. (The Rabin Memoirs, pp. 96-99.)
الفارق الوحيد بين تقدير عبد الناصر والقرار الإسرائيلي كان في أن عبد الناصر اعتقد أن أوضاع الجبهة الأردنية ووصول القوات العراقية سيكون العامل الحاسم في التوقيت، بينما رأي الإسرائيليون أن التطورات على الجبهة المصرية وعدم استعداد القوات المصرية هو العامل المحوري. لكن المهم أن تقدير عبد الناصر كان صائبا ودقيقا سواء في توقيت الهجوم الإسرائيلي (يوم ٥ يونيو) أو طريقته (هجوم منظم على المطارات).
وبالرغم من أن عبد الناصر ركز على أهمية عدم البدء في القتال حتى لا نستعدى القوى الكبري، وبالتالي ضرورة تلقي الضربة الأولى ، الأمر الذي يحتم أهمية تشديد الدفاع الجوي وتحصين المطارات، إلا أن أيا من هذه التعليمات لم يُبلغ لقيادات الدفاع الجوي في القيادة العليا أو في المطارات (ويجب أن نتذكر أن الفريق جمال عفيفي، رئيس أركان القوات الجوية، لم يكن حاضرا في هذا المؤتمر / القعدة.)
ويعلق صلاح الدين الحديدي في كتابه شاهد على حرب ٦٧ على هذا الموقف قائلا: ” إن الصورة الواضحة التي وضعها الرئيس الراحل عن توقعاته لم تخرج عن جدران القاعة التي عُرضت فيها، … فرجال القوات الجوية والدفاع الجوي لم يبلغهم أن قواتهم ستكون هدفًا للعدو بعد يومين أو ثلاثة أيام، حيث أن قائد القوات الجوية ومعاونوه الذين حضروا هذا الاجتماع التاريخي وجدوا أن من الأنسب … ألا يعلنوا هذه التوقعات على قواتهم المقاتلة، بل لم يخطر يها رئيس أركان القوات الجوية الذي لم يكن موجودا في الاجتماع.” (ص ١٧٢).
ولم ينته هذا اليوم الدرامي، يوم الجمعة ٢ يونيو، إلا وقد أمر المشير عامر بتوزيع منشور صادر عن المخابرات الحربية المصرية يتعارض تماما مع ما جاء في المؤتمر / القعدة. فقد جاء في هذا التقرير أن “إسرائيل لن تقدم على عمل عسكري تعرضي (أي هجومي)، وأن الصلابة العربية الراهنة ستجبر العدو بلا شك على أن يقدر العواقب المترتبة على اندلاع شرارة الحرب في المنطقة.” (فتحي، مصر من الثورة إلى النكسة، ص ٣٦٣)
المشهد الثاني:
الزمان:
يوم الإثنين ٥ يونيو ١٩٦٧، الساعة الثامنة والنصف صباحا
المكان:
مطار بير تمادا بوسط سيناء
الحضور:
قادة القوات المخصصة للضربة المضادة التي قرر المشير عامر توجيهها على المحور الجنوبي (وسأتناولها في مقال قادم)، ومنهم قائد الجيش الميداني، القريق صلاح محسن، وقائد الجبهة ، الفريق عبد المحسن مرتجي، والكثير من قادة التشكيلات الذين حضروا بالهليكوبتر كل من موقعه لاستقبال المشير عامر ومعاونيه.
فلحاجة في نفس يعقوب قرر المشير عامر أن يقوم بزيارة للجبهة في هذا اليوم تحديدا، يوم ٥ يونيو، بالرغم من تحذير عبد الناصر قبلها بثلاثة أيام فقط من أن إسرائيل ستقوم بالهجوم في موعد أقصاه ٥ يونيو.
وبالتالي أصدر مكتب المشير يوم ٤ يونيو تعليمات لجميع القادة في سيناء حتى مستوي قادة الفرق للحضور إلى تمادا للتباحث مع نائب القائد الأعلى.
وكانت هذه الزيارة هي الثانية للمشير بعد إعلان رفع درجات الاستعداد للقوات المسلحة والأولى بعد تدفق القوات لسيناء واكتمال الحشد العسكري الذي أمرت به القيادة العامة بالقاهرة.
وكان من الطبيعي أن يستعد القادة لهذه الزيارة، فيجهز كل منهم تقريرًا عن حالة قواته وتعليقه على الدور الذي سيقوم به في المعركة.
وربما كان هناك بعض القادة الذين اعتزموا مناقشة الغرض من العملية كلها، والأهداف المنشودة منها وكيفية التنسيق فيما بينهم.
وكان هذا الموضوع الأخير، أي التنسيق بين القيادات، موضوعا شائكًا ملغزًا.
فطوال الشهور والأسابيع التي سبقت المعركة كان الفكر يقوم على أن القوات في سيناء تحركها قيادة ميدانية وكان مقرها في الإسماعيلية، اسمها قيادة الجيش الميداني، أو القيادة الشرقية، والتي كانت تحت إمرة الفريق صلاح محسن.
وكان من البديهي أن هذه القيادة تتلقى أوامرها من القيادة العليا بالقاهرة، وتحديدا من نائب القائد الأعلى، المشير عامر، ورئاسة الأركان، بقيادة الفريق أول محمد فوزي، وهيئة العمليات، بقيادة الفريق أول أنور القاضي.
ثم فجأة، وفي يوم ٢٩ مايو، أضيفت قيادة جديدة اسمها القيادة الأمامية للجبهة (الحديدي، شاهد، ص ١٥٨) وفي رواية أخرى “مركز قيادة متقدم” (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق ، ص ٥٨) وأوكلت للفريق عبد المحسن مرتجي الذي كان يشغل منصب القائد السياسي العسكري للقوات المصرية في اليمن والذي لم يسبق له الخدمة في سيناء إلا لمامًا ومنذ سنوات عديدة مضت قبل الاعتداء الثلاثي في ١٩٥٦.
وإضافة إلى التضارب بين القيادات، فإن التغيير المتلاحق للخطط سبب انزعاجا شديدا لقيادة الجيش الميداني وقائدها الفريق صلاح محسن، وطلب مرارا من القاهرة توضيح الصورة.
وعندما لم تصله الإيضاحات الكافية، أوفد رئيس هيئة عمليات الجيش الميداني، اللواء أحمد اسماعيل علي، في يوم ٢٧ مايو من للتباحث مباشرة مع رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، الفريق أنور القاضي، في القاهرة.
وكانت الأسئلة المطلوب الإجابة عنها أسئلة جوهرية أساسية، توضح مدى انزعاج القوات في سيناء من ضبابية الموقف.
- ما هي مهمة الجيش الميداني بالتحديد؟
- ما هي خطط العمليات التعرضية ومدتها؟ ما الذي تريده القيادة العليا من الجيش الميداني؟
- ما هي نواياها وتصميمها؟
- وهل استراتيجيتنا دفاعية أم هجومية؟ وهل الهجوم إذا بدأ من جانبنا سيكون شاملا أم محدودا؟
تلك هي الأسئلة التي ذهب بها اللواء أحمد اسماعيل للقاهرة، وعاد خالي الوفاض. (الجمسي، مذكرات، ص ٧٢؛ مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٨٧)
لذا كان كل القادة متطلعين غاية التطلع لزيارة المشير عبد الحكيم عامر يوم ٥ يونيو ، وكانوا يأملون أن يحسم بحضوره الشخصي التضارب والغموض الذي هيمن على الجيش الميداني بقياداته المتعددة.
ولكن تلك الزيارة لم يُكتب لها أن تتم.
فبعد أن اصطف الجميع في مطار بير تمادا استعدادًا لتحية المشير عند وصوله، وعندما دنت الطائرة اكتشف الجميع أنها لم تكن طائرة المشير بل طائرة إسرائيلية معادية أخذت في قصف ممر المطار، ثم أعقبتها طائرة أخرى قصفت الطائرات الرابضة في المطار ودمرتها كلها. وعندما رأي طيار طائرة المشير المطار يُضرب تحته عاد فورا للقاهرة.
أما القادة المنتظرين فلدينا شهادتان تعبران عن مدى الجزع والتخبط أثناء هذه اللحظات الرهيبة.
الشهادة الأولى للفريق مرتجي الذي كان بين مستقبلي المشير. فيقول في مذكراته: ” في بداية الأمر لم نظن أن الطائرات المقاتلة التي فوق رؤوسنا هي طائرات إسرائيلية…
فإننا لم نتوقع الغدر من جانب العدو، أو على الأقل كانت الصورة العامة بالنسبة للموقف كله لا تنبئ بأن إسرائيل ستبدأ ضربتها بهذه السرعة.
ولم نكن ندري في موضعنا عن ما يحدث للقواعد الجوية الأخرى، وكنا نظن أن الطائرات المصرية المقاتلة لن تلبث أن تظهر سريعا لامتلاك زمام الأمور، وانتزاع السيطرة من العدو.
ولكن طال انتظارنا وخاب أملنا، وأصبح لزاما علينا أن نعود بأسرع ما يمكن إلي مركز القيادة بطريق البر بصرف النظر عن الهجوم الجوي وعن الكثافة المستمرة للطيران الإسرائيلي في أجوائنا.” (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ١٤٤)
أما الشهادة الثانية فهي للواء كمال حسن علي ، قائد اللواء الثاني المدرع، فقد كان لواءه متمركزا في منطقة تمادا على بعد خمسة كيلومترات فقط من المطار الذي اصطف فيه القادة انتظارا لطائرة المشير. ولنترك له الحديث ليصف لنا المشهد كما رآه:
“كانت الطائرة [الإسرائيلية] في طريقها مع طائرات أخرى لضرب مطار بير تمادا… كان على هذه الطائرة المعادية أن تطير طيرانا منخفضا لتضرب طائراتنا… وهكذا أصبحت صيدًا سهلًا لمدافع كتيبة الدفاع الجوي للواء.
ولكن في هذا اليوم كانت الأوامر تقضي لدينا بتقييد النيران وعدم الاشتباك مع أي طائرة في السماء وذلك حتى وصول طائرة المشير لمطار التمادا.
ولكنا سمعنا أصوات انفجار واضحة، ورأينا الطائرات المعادية وهي ترتفع تدريجيا إلى السماء بعد ضربها الممرات، وهكذا لم يكن هناك بد من الاشتباك برغم الأوامر التي تنص على غير ذلك.
وهكذا تمكنت مدافع الكتيبة المضادة من إصابة ثلاث طائرات للعدو وأسقطتها. ولكن ما كادت الموجة الأولى للإغارة تنتهي، حتى تلتها مباشرة الموجة الثانية.
وجاءت إحدى طائرات العدو… فدمرت أحد المدافع واستشهد فردان أحدهما مدني هو عامل التسليح.
ومع ذلك لم تكف الكتيبة عن الاشتباك واستمرت باقي المدافع توجه نيرانها في ثبات وبسالة. الحقيقة إني لم أستطع بيني وبين نفسي أن أخفي إعجابي بهؤلاء الجنود.
ولكني كنت في هذه اللحظة مشغول البال بطائرة المشير…” (كال حسن علي، مشاوير العمر، ص ٢٢٨)
المشهد الثالث:
الزمان:
يوم الإثنين ٥ يونيو ١٩٦٧، الساعة الثامنة والنصف صباحا
المكان:
السماء فوق مطار بير تمادا بوسط سيناء
الحضور:
المشير عبد الحكيم عامر؛الفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية؛ الفريق أول محمد فوزي، رئيس الأركان؛ الفريق أنور القاضي، رئيس هيئة العمليات، وعدد ضخم من كبار القادة، بالإضافة إلى رجال الإعلام والمصورين.
بعد أن دنت طائرة المشير من مطار بير تمادا وبدأت في الهبوط، لم يلبث الطيار أن ميز الطائرات الإسرائيلية وهي تقصف المطار، فغير اتجاهه على الفور.
وقد شعر في الحال الفريق صدقي بما قام به الطيار فدخل عليه كابينة القيادة ليعرف السبب، “ولكنه بعد أن شاهد الطائرات الإسرائيلية تدك المطار المصري وتصول وتجول في الجو دون أدنى مقاومة (والكلمات لصلاح الدين الحديدي)، أمر الطيار بالعودة إلى مطار القاهرة الدولي بدلا من مطار ألماظة.
“. وأرسل إشارة لاسلكية إلى تشكيلاته يأمرها بها أن تقوم بهجوم مضاد وأن تهجم على المطارات الإسرائيلية. وبالطبع لم يكن يعرف مدى الدخسائر التي لحقت بالفعل بتشكيلاته وأنها لم تعد تستطيع تنفيذ أوامره.
“وصلت طائرة المشير إلى مطار القاهرة الدولي، ولم يكن هناك بالطبع مستقبلون…. استقل المشير إحدى سيارات الأجرة، وكانت الوحيدة الرابضة خارج المطار، ومن نوع عتيق جدًا، يقودها سائق عجوز، إلى مقر القيادة العامة بمدينة نصر، وصحبه في نفس السيارة قائد القوات الجوية وبعض كبار المرافقين.
ولا شك أنه كان منظرا فريدًا في نوعه لم يسبق له مثيل، إذ انحشر قادة يحملون أكبر الرتب العسكرية، بملابسهم الرسمية، ونياشينهم المصفوفة على صدورهم داخل سيارة عتيقة تتحرك بالكاد، وسائقها المدني الهرم القادم من مصر العليا ذو النظارات السميكة ترتعد فرائضه خوفا من القصف الجوي من ناحية، ومن خطورة الشخصيات التي يحملها من ناحية أخرى، وهم يستحثونه ليصل بهم في أسرع وقت إلى مقر القيادة. وما إن وصلوا حتى بدأن إذاعات القاهرة تصدر البيان تلو البيان عن عدد الطائرات المعادية التي أسقطت. (الحديدي، شاهد، ص ١٨٦-١٨٧)
المشهد الرابع:
الزمان:
يوم الإثنين ٥ يونيو ١٩٦٧، الساعة التاسعة صباحا.
المكان:
مطار أبو صوير بمنطقة فايد جنوب الإسماعيلية
الحضور:
حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية؛ طاهر يحيى، رئيس الوزراء العراقي؛ طيار تحسين زكي، قائد لواء السوخوي.
في نفس الوقت الذي حاولت طائرة المشير أن تهبط في مطار تمادا، كانت هناك طائرة أخرى مماثلة، أليوشن ١٤، تحاول هي الأخرى أن تهبط في مطار أبو صوير.
هذه الطائرة الثانية كانت تقل حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية، بصحبة طاهر يحيى، رئيس الوزراء العراقي الذى أتى لمصر للتوقيع على اتفاقية دفاع مشترك.
وبعد أن هبطت الطائرة بدقيقة أو دقيقتين ظهرت الطائرات الإسرائيلية وأخذت تقصف المطار بنفس الطريقة المنهجية:
موجة أولى تستهدف الممرات بقنابل تنفجر بعد أن تكون قد اخترقت الممر وغاصت فيه، فيحدث الانفجار فجوة عميقة وواسعة يجعل من المستحيل إقلاع الطائرات من الممر، ثم يعقب هذه الموجة موجة ثانية من المقاتلات تقصف الطائرات المرصوصة في المطار.
وكان من نتاج هذا القصف أن دُمرت جميع الطائرات المرصرصة صفا واحدا كأنها تدعو المقاتلات أن تدمرها.
(الحديدي، شاهد، ١٨٤؛ فوزي، حرب الثلاث سنوات، ص ١٣٤-١٣٥).
. وقد شهد هذه الواقعة الطيار تحسين زكي الذي أدلى بشهادته لعصام دراز في كتابه ظباط يونيو يتكلمون، فلنقرأ نص شهادته:
“قفز ركاب طائرة حسين الشافعي منها عندما شاهدوا قصف المطار، واختبأوا خارج الممر خلف ساتر. وبعد ذلك هاجمت الطائرات الإسرائيلية الطائرة وهي تقف على الممر الفرعي فاحترقت.
وبعد انتهاء الضربة الأولى كلفتُ طيار اسمه السمري أن يركب سيارة جيب ويقوم بإحضار حسين الشافعي ومرافقيه إلى مبنى المطار.
وعندما وصل إلى المطار واجهه الطيارون وقالوا له “كده كويس؟! لماذا لم تتركونا نضرب الضربة الأولى؟” كان الطيارون في حالة توتر وحزن شديد لتعرضهم لهذه الضربة وعدم إتاحة الفرصة لهم بالقيام بالضربة الأولى.”
المشهد الخامس:
الزمان:
يوم الإثنين ٥ يونيو ظهرا ومساءا
المكان:
مكتب المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الدور السادس، مبني القيادة العامة بمدينة نصر، القاهرة.
الحضور:
المشير عبد الحكيم عامر؛ عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين، أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم.؛ الرئيس جمال عبد الناصر
بعد أن استمع كل من عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين، أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم، للإذاعة المصرية طوال يوم ٥ يونيو وابتهجوا مثل غيرهم من المصريين بعدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها، راودتهم الشكوك بعد أن استمعوا للإذاعات الأجنبية التي كانت تنقل أخبار تدمير الطائرات المصرية لا الإسرائيلية. فقرروا أن يذهبوا للمشير عامر في مكتبه لاستيضاح الأمر.
ويقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته (ص ٢٨٠-٢٨٧) إنهم عندما وصلوا مكتب المشير في مقر القيادة سألوه عن خسائرنا في الطائرات، فرد قائلا إننا خسرنا أغلب طائراتنا، ولكن لا داعي للقلق لأن لديه خطة للدفاع عن القوات في سيناء حتى بدون غطاء جوي.
ثم يضيف البغدادي: “وفي أثناء وجودنا معه لاحظنا أن محمد صدقي محمود [قائد القوات الجوية] كثير الاتصال به ، وأنه لا يدير معركة جوية، وإنما على ما يظهر يبكي له في التليفون.
ويظهر أن أعصابه انهارت.”… وكان حسين الشافعي قد حضر إلى مكتب عبد الحكيم وهو معفر الثياب. وعلمنا منه أنه كان يرافق رئيس وزراء العراق الذي وقع على اتفاقية دفاع مشترك في زيارة للقاعدة الجوية بمطار فايد بالاسماعيلية، أن المطار قد هوجم من الطائرات الإسرائيلية أثناء نزول الطائرة التي كانوا يركبونها إلى الأرض….
“وسألنا عبد الحكيم لماذا لا تصعد طائراتنا وتتصدى لطائرات العدو أو تغير على مطاراته… فقام بإصدار أوامر إلى صدقي بالعمل على قذف ومهاجمة مطارات العدو…
“وفي المساء عدنا إلى القيادة ووجدنا عبد الحكيم مشغولا بالاتصال بضابط في مطار العريش اسمه اللواء الديب، ويطلب منه مدفع ٥٧ ملم مضاد للدبابات… واندهشنا كيف يمكن لقائد عام كعبد الحكيم أن يشغل نفسه بموضوع مدفع طوال الوقت…
“وفي هذه الأثناء حضر جمال عبد الناصر إلى مكتب عبد الحكيم، وتصافحنا وجلس معنا وقال “والله زمان يا سلاحي”. .. ثم سأل جمال عبد الحكيم عن خسائرنا في الطائرات ولكن حكيم تهرب من الإجابة…
وسكت جمال ولم يعلق بشيء إنما سأله عن الموقف في الجبهة. وكان حكيم يتهرب من الرد بأن يشغل نفسه في الرد على التليفون ويعطي أوامر فرعية وصغيرة جدا لا يصح أن يشغل نفسه بها كقائد عام.
ولكن بعد فترة قدم شمس [بدران، وزير الحربية] لجمال تقريرا كان موجودا على مكتب حكيم وقال له “سير العمليات”.
وأخذه جمال وجلس على طرف مكتب عبد الحكيم وأخذ يتطلع لما جاء فيه، وبدأت تظهر على وجهه علامات عدم الارتياح التي أعرفها عنه. وفي أثناء اطلاعه عليه نظر إلى عبد الحكيم وقال له “إن خان يونس سقطت، ورفح المدينة محاصرة، والاتصال بها مقطوع، وغزة تهاجم.”
ثم قال لعبد الحكيم “لا بد لنا أن نعرف الموقف على حقيقته.”……. ولكن عبد الحكيم ظل رغم طلب جمال عبد الناصر يشغل نفسه بالرد على التليفونات. ……. في النهاية بعد أن فرغ صبر جمال قام ودخل إلى حجرة النوم الملحقة بمكتب عبد الحكيم. وبعد فترة دخلتُ إلى الحجرة للذهاب إلى دورة المياة وهي من داخلها ـ فوجدت جمال نائماً على السرير ضاجعاً [مضّطجعاً]، وعلى ما يظهر يفكر في المأزق الذي أصبحنا فيه وكيفية الخروج منه. …….
وبعد وقت قصير خرج جمال من غرفة النوم، وطلب من عبد الحكيم أن يرسل شيئاً للصحف عن المعركة لتعرف الناس الموقف على حد قوله. وذكر: “أن نقول مثلاً أننا توغلنا في أرض العدو وخلافه ـ لأن العدو يذيع بيانات عن المعركة ونحن لا نذيع شيئاً.”
ثم قام بعد ذلك وقال “أظن نروح ننام ونسيب عبد الحكيم يشتغل.”