من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
عرفته منذ كان عمري خمسة عشر عاما وهو في التاسعة عشرة من عمره, ونشأ بيننا حب عميق وتمسك كل منا بالآخر, ورفضت من أجله كل من تقدموا لي, إلي أن أصبح قادرا علي الزواج وتقدم إلي وجمعنا عش الزوجية وسعدنا بحياتنا معا وأنجبنا بنتا وولدين, ومضت بنا رحلة العمر كما تمضي بغيرنا من الناس.. وواجهنا ما يواجهنا من مشكلات الحياة.. واجتزناها معا.. وكان الحب رائدنا في كل الظروف حتي في الخلافات العابرة التي لا تخلو منها حياة أي زوجين.
وكبر الأبناء وتزوجت الابنة, وكنت دائما الزوجة المحبة لزوجها والمخلصة لبيتها والقائمة بكل أعمال البيت علي خير ما يرام بالرغم من أنني موظفة كما كنت ومازالت, وأنفق كل دخلي علي أسرتي ولم أشعر ذات يوم بتقصير من جانبي تجاه زوجي, سواء من الناحية العاطفية أو العائلية.
ثم منذ خمس سنوات وجدته يتغير من ناحيتي فجأة ويبتعد عني, وإذا جلست إلي جواره حرص علي أن يلتفت إلي الجانب الآخر لكيلا يري وجهي.. أو كأنه يفعل شيئا لا يستطيع معه أن ينظر إلي أو يثبت عينيه في عيني, كما بدأ بهملني ويعاملني بجفاء ويتهرب مني, ويدعني أنام وحيدة وينام هو في فراش آخر, وإذا اضطرته الظروف للمبيت في فراشي لوجود ضيوف عندنا مثلا, سهر حتي أستغرق في النوم ثم تسلل للنوم إلي جواري.. وإذا سهرت أنا سارع هو بالنوم مبكرا وتركني وحيدة.
وساورتني الشكوك تجاهه وتساءلت عما يمكن أن يكون سببا لابتعاده عني بعد كل هذه السنين من الحب والامتزاج.. وفاتحته في أمر إهماله لي فكان لا يشفي غليلي بكلمة مفيدة في كل مرة ويسرع بمغادرة البيت. وواجهته بشكوكي في خيانته لي فأقسم بأغلظ الأيمان أنه لا يعرف امرأة سواي.
وأخيرا تكشف السر المكتوم وجاءتني ابنتي المتزوجة تبكي وتقول لي إن شقيقها قد صارحها بشكه في زواج أبيه من أرملة تصغره بـ16 عاما, وأنه تعرف عليها عن طريق عمله ويساعد أبناءها في دراستهم, وأنه وشقيقه قد تحدثا إليه في هذا الأمر فأكد لهما أنه إنما يساعد هذه السيدة فقط في إنهاء بعض الأوراق المتعلقة بمعاشها. وصعقت لما سمعته.. وظللت أستعرض من أعرفهن من السيدات الأرامل والمطلقات لكي أكتشف من منهن خانني زوجي الحبيب معها بعد كل هذه السنين.. وتحريت كل الأماكن التي يذهب إليها زوجي إلي أن توصلت إليها في النهاية وقابلتها وواجهتها بما عرفته فكانت في قمة البرود وهدوء الأعصاب وأنكرت زواجها العرفي من زوجي.
وازدادت حيرتي معه.. وفي أمري وبدأت أستعيد كل تصرفاته وخداعه لي ومبرراته الزائفة لكثرة الخروج والتأخر خارج البيت.. وشعرت بالذل والهوان بعد أن يضعني زوجي في هذا الموقف مع هذه السيدة, وشعرت بالنار تسري في جسدي كلما فكرت في علاقته بها وأحسست بأنه رجل كبير لكنه ناقص, لم يرع سنه و وضعه الاجتماعي والعائلي كزوج وأب وجد, كما لم يرع ابناءه ويرغب في أن يتعلق بأهداب الشباب الذاهب, فيرتدي ما لا يليق بسنه ومركزه من الملابس ويتظرف أمام السيدات والبنات اللاتي في عمر أبنائه, وسقط من نظري وشعرت بالحزن عليه وعلي طفولته المتأخرة التي يعيشها الآن, وأتمني أن تنتهي علاقتي به لأني لا أستطيع الحياة معه علي هذا النحو ولن أغفر له مهما حييت خيانته الكبري لي, وأصبحت أشك في كل تصرفاته حتي ولو كانت بريئة وأفكر جديا في هدم بيتي الذي بنيته بدمي ومالي وسنوات عمري, ولا أنسي خداعه لي مع سيدة تصغره بـ16 عاما وليس فيها أية جاذبية, ولا هي ذات مركز أو مال.. ولا تفضلني في شيء إن لم أفضلها أنا من كل الوجوه.
فإذا قال أحد مبررا لنفسه الخيانة إن الرجل في مثل هذه السن يحتاج إلي الحب والحنان والرعاية, ويبحث عنها حيث يجدها, فإني أقول له إنني لم أقصر معه في هذه الناحية, بل إنني عاطفية جدا.. كما أن المرأة أيضا في نفس هذه السن تحتاج إلي ما يحتاج إليه الرجل من الحب والحنان والرعاية, فماذا أفعل بحياتي مع هذا الزوج الخائن الذي أخلصت له طوال رحلة العمر.. ولم أخنه أبدآ؟
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
إذا ضاعت الثقة بين الزوجين فسدت الحياة.. وتسممت النفس بالمرارة والشكوك.. وأنت محقة ياسيدتي إلي حد كبير في صدمتك في حبيب العمر الذي ارتبطت به وأنت في الخامسة عشرة من عمرك, ومحقة كذلك في رد فعلك الغاضب عند اكتشافك لخديعته لك وزواجه العرفي من أخري, وكلاكما في سن الاحترام والهدوء وتطلع النفس لجني ثمار رحلة الكفاح والعطاء.
ولاشك في أن انتهاء معزوفة الحياة بنغمة حزينة لمما يؤلم النفس حقا ويثير الأشجان, لكن ماذا نفعل ياسيدتي في بعض أحوال أزمة منتصف العمر.. ورغبة البعض في إقناع أنفسهم بأنهم مازالوا قادرين علي الحب والمغامرة العاطفية؟ وماذا تفعل الأم حين تكتشف تردي ابنها فيما لا تحبه له ولا ترضاه؟
هل تقطع مابينها وبنيه وتدعه لنفسه وأقداره فيغوص أكثر وأكثر في الرمال المتحركة, أم هي تغضب منه وتتألم له لكنها أبدا لا تفقد الأمل في استعادته ذات يوم إلي الطريق القديم, ولا تكف عن السعي إلي ذلك بكل الحيل والوسائل حتي ولو منيت جهودها المتكررة بالفشل المرة بعد المرة.
إن كل إنسان به قدر ما من النرجسية, والإعجاب بالذات, والاعتقاد الموهوم بأحقيته دون غيره من البشر في أن ينال من الحياة أطيب الثمار وفي كل المراحل!
والفضلاء من البشر وحدهم هم الذين يتحكمون في هذا الميل الغريزي لديهم ويردونه إلي جحوره بالتواضع. وتذكر حقوق الآخرين عليهم ومراعاة الأوضاع الاجتماعية والعائلية, والترفع عن الدنايا والترخص, والاستجابة للإغراءات, احتراما للنفس والغير والقيم الإنسانية, لكنه في مواجهة بعض من يعجزون عن ذلك أو يتعرضون للضعف البشري العابر في بعض مراحل العمر فإن خبراء الشئون الأسرية في الغرب الذي تسود فيه القيم الفردية أكثر من أي مكان آخر بالعالم.. لم يجدوا ما ينصحون به زوجة في مثل ظروفك سوي أن تتعامل مع نزوة زوجها المدمرة بحكمة الأم, وبفهمها لحقائق الحياة والضعف البشري, وبأملها المستميت وإنما في انصلاح الأحوال.. واستعادة الابن الشارد إلي جادة الحق.
وأنت يا سيدتي فيما أستشعره من رسالتك غاضبة إلي حد الحنق من زوجك ولك كل الحق في ذلك, لكنك غير راغبة في قطع ما بينك وبينه أو الانسحاب النهائي من حياته.. ومادام الأمر كذلك فليس أمامك من سبيل سوي السعي الدءوب لاستعادة الطائر الشارد إلي عشه المهجور, وإقناعه بكل ما تملكين من كلمة وخبرة وفهم أنثوي بأنه لا يحتاج إلي اختبار جاذبيته كرجل في أية جبهة خارجية.. مع ما يستتبع ذلك من تخبط وتعرض للمتاعب والاضطراب في حياته الشخصية, لأنه بالفعل الفارس المشهود ولا يحتاج إلي شهادة خارجية أخري, وفي كل الأحوال فإنه إذا كان هناك من ينبغي له أن ينسحب مهزوما مدحورا في مثل هذه المواجهة, فهو الطرف الخارجي الذي غزا حضنك الآمن ولست أنت, إذ أنه ليس من الاحترام لسنوات العمر الطويلة التي استغرقتها قصتك مع زوجك أن يكون استسلامك سريعا أو متخاذلا علي هذا النحو.
إن علماء الزيولوجيا يقولون لنا: إن الحمامة بالرغم من كل ما يشاع عن وداعتها, لا ترجع عن غريمتها التي تقتحم عليها عشها حتي تقضي عليها أو تنجح الغازية في الفرار ناجية بحياتها.
ولست أطالبك بالقضاء علي غريمتك وإنما بمنافستها في ميدانها واجتذاب زوجك إليك وانتزاعه منها وسد كل المنافذ عليها فلا تقدر علي تهديد عشك أو اقتحامه وترجع خاسرة مدحورة.
فأما الشكوك والهواجس والمرارات بعد ذلك فإن رصيد العمر وحكمة الأم في التعامل مع شريك الحياة كفيلان مع مرور الأيام بتهدئة الخواطر وإعادة بناء الثقة, أو علي الأقل الحد الأدني منها من جديد بإذن الله.