أجمل رسائل بريد الجمعةقضايا وأراء

السنوات الجميلة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

بالرغم من إنني قارئة مستديمة لبريد الجمعة إلا أنني ترددت طويلا في الكتابة إليك, حتى قرأت رسالة الجوانب المضيئة فشجعتني علي أن اروي لك قصتي مع الأيام, فلقد روي لك فيها كاتبها الشاب كيف فقد أمه وهو طفل صغير فاحتضنته جدته وأصبحت أما بديلة لها..

ثم لقيت وجه ربها وتكررت تجربة اليتم الأليمة في حياته وانتقلت حضانته إلي زوجة أبيه, فكانت لحسن الحظ ممن غرس الله سبحانه وتعالي الرحمة بالأيتام في قلوبهن, فرحمته وعطفت عليه وأحسنت رعايته, فإذا به يفقدها هي الأخرى ويستشعر مرارة اليتم من جديد, وكان قد تركت عليه تجربة الأيام بصماتها في مرض بالكبد, وضعف في السمع الخ,

ولقد رددت عليه مهونا وداعيا إياه إلي التمسك بالإيمان بالله والرضا بقضائه وقدره, والأمل في الغد, واختتمت كلمتك له, بأن لدي الإنسان ميلا غريزيا للرثاء للنفس, وان هذا الميل قد يكون له ما يبرره في بعض الأحيان, وقد لا يكون هناك ما يدعو إليه, لكنك تري أن رثاء هذا الشاب لنفسه عن حق وله ما يبرره وأريد أن اروي لك قصتي لتحكم علي هذا الميل لدي وترى إذا ما كنت محقة فيه أم مغالية في إحساسي به في بعض الأحيان

فأنا فتاة في الثالثة والعشرين من عمري وحين كنت طفلة في التاسعة من عمري ذهبت إلى الشاطئ مع أبي وأمي وشقيقي في أجازة وخلال لهوي مع أخي فوق الرمال لاحظت أمي شيئا غريبا استوقفها في ظهري .. وأسرت لأبي بملاحظتها وشكوكها فاتهمها بالوسوسة والخوف المبالغ فيه علي أطفالها لكن أمي لم يهنأ لها بال حتى قامت بعرضي علي أحد الأطباء فطلب إجراء العديد من التحاليل والإشاعات, وفي النهاية قال لوالدتي إنها أم ممتازة لأنها قد لاحظت شيئا قد تفوت ملاحظته علي الكثيرين,

وصارحها بأنني مصابة بعيب خلقي في العمود الفقري عبارة عن اعوجاج في بعض فقراته من الأسفل إلي الأعلى وإنها حالة نادرة لكنها تتطلب إجراء جراحة عاجلة لعلاجها وإلا فإنها سوف تتفاقم ويزداد الاعوجاج وينتهي بالتفاف العمود الفقري حول الرئتين والوفاة.وانهارت أمي حين سمعت ذلك, وأرادت أن تتأكد من صحته فعرضتني علي أربعة أطباء آخرين أكدوا لها صحة هذا التشخيص, وحذروها من التأخر في إجراء الجراحة, وانتهي الأمر باختيار احد الجراحين لإجراء العملية ودخلت المستشفي قبل موعدها بأسبوع لإجراء المزيد من الفحوص والتحاليل,

وذات يوم جاءت إلي الممرضة التي كانت ترعاني في المستشفي ـ واصطحبتني معها وفي الطريق عبر ممرات المستشفي نظرت إلي بإشفاق ثم سألتني: هل تحفظين الفاتحة؟ وأجبتها بالإيجاب فطلبت مني أن أقرأها واكرر قراءتها طوال سيرنا في الممرات, وفي احدي الغرف طلبت مني الممرضة خلع ملابسي, وارتداء قميص ابيض ووضع بونيه من البلاستيك فوق رأسي وفعلت ما طلبت ثم قادتني إلي غرفة أخرى يسودها اللون الأخضر في الحوائط والأثاث, ويقف بها رجال يرتدون معاطف خضراء اللون,

ابتسموا جميعا في وجهي ثم اقترب مني احدهم وطلب مني أن يري يدي فمددتها له فوخزني بإبرة في كفي الصغيرة, ولم تمض دقائق حتى كنت قد غبت عن الوعي لفترة لا أدريها, وأفقت من غيبوبتي فوجدت أبي وأمي حولي وهما يبتهلان إلي الله حمدا وشكرا علي سلامتي, وعرفت انه قد أجريت لي الجراحة المطلوبة ووجدتني لا اقوي علي تحريك قدمي واستمر الحال هكذا شهرا كاملا وتبين أنني قدا أصبت بشلل مؤقت وغادرت المستشفي وأخي يدفعني أمامه علي الكرسي المتحرك,

رائج :   خدعوك فقالوا … الزوجة المصرية “نكدية”

وأمضيت أيامي حبيسة البيت اجلس في الشرفة أرقب الأطفال وهم يلهون ويجرون في الشارع ولا أعرف سببا لعجزي عن أن أفعل مثلهم, وقبل أن يتمكن اليأس والإحباط مني جاء أبي وأمي لي بطبيب متخصص في العلاج الطبيعي, فراح يعلمني علي مدي ثلاثة شهور بصبر وإخلاص المشي كما يعلم الإنسان طفلا يبدأ عامه الثاني, إلي أن استطعت المشي بالفعل وسعدت بذلك كثيرا لكن ذلك لم يكن نهاية المعاناة وإنما بدأت رحلة أخري من العذاب, فلقد قام الجراح بوضع شرائح معدنية ومسامير لسند العمود الفقري بعد الجراحة, ولم يتقبل جسدي هذه الأجسام الغريبة فكونت خلاياه صديدا بالجرح وداخله,

وتطلب الأمر إجراء 8 عمليات جراحية أخري لي علي مدى حوالي 5 سنوات, كان آخرها لتكسير عظام الحوض وأخذ أجزاء منها لسند العمود الفقري حتى لا يقوم الجسم بإفراز صديد جديد حوله, وشاءت الأقدار لي في آخر هذه العمليتان أن تقع زجاجة صبغة اليود من يد الطبيب المساعد, فيسقط السائل الحارق علي وجهي ورقبتي ويصيبها بالحروق, وعانيت بعد ذلك آلاما قاسية في الظهر والحوض والوجه والرقبة,

وتوفي طبيبي المعالج إلي رحمة الله وافتقدنا إخلاصه ودرايته بحالتي,ومضي بعض الوقت حتى تعرف خالي بالمصادفة علي طبيب شاب يدرس نفس هذه الحالة, فتولى علاجي وأنقذ حياتي حين أخرج من جسمي 13 غرزة بخيوط الجراحة كان من المفترض أن تتحلل داخل الجسم, لكنها لم تحلل واستمرت رحلة العذاب هذه منذ اللحظة التي شكت فيها أمي في سلامة ظهري إلى أن أذن الله بالشفاء وانتهاء المعاناة خمس سنوات كاملة استغرقت أجمل الأعوام من سن التاسعة إلي الرابعة عشرة, وحرمت طوالها من النوم الطبيعي بسبب ما عانيته من آلام, فإذا سكتت الآلام بعض الشيء أطار النوم من عيني بكاء أمي وابتهال أبي إلي الله داعيا لي بالشفاء, كما لم يغب عن مخيلتي أبدا ولن يغيب إلي النهاية وجه أخي وهو يضرب رأسه في الحائط تألما وضيقا حين رأي وجهي محترقا بسبب صبغة اليود.

وطوال هذه الأعوام الخمسة لم أتخلف عن مواصلة الدراسة,وبعد انتهائها بسلام اجتزت الثانوية العامة والتحقت بكلية نظرية مرموقة ووفقني الله في النجاح والحصول علي شهادتها بتقدير جيد جدا, وكان ذلك من فضل الله وبفضل أبي وأمي اللذين لم يدخرا وسعا في رعايتي وعلاجي في أفضل المستشفيات وعرضي علي أكبر الأطباء, فإذا كنت قد أسيت لشيء في كل ما لقيت من عناء, فعلي أنني لم استمتع بالسنوات الجميلة في حياة كل ابنه ـ أو ابن,

فلم استمتع ببراءة الطفولة ولا شقاوة سنوات المراهقة, ودخلت مرحلة الشباب والدراسة الجامعية وأنا اخشي العلاقات الاجتماعية حتى لا أضع نفسي موضع تساؤل قد يحرجني أو يجرحني, كما لم أفكر في الارتباط بأي شاب حتى لا أثير موضوع الجراحات مع أحد, إلي أن ساق القدر لي وأنا في السنة النهائية بالجامعة زميلا لي في نفس القسم عبر لي عن إعجابه بي وانبهاره بهدوئي ورقتي وصارحني برغبته في الارتباط الرسمي بي, ففتح بذلك باب الأمل أمامي, ودعم ثقتي به وشجعني ذلك علي أن أروي له قصتي مع الجراحات التي أجريتها واستقبل هو كل ذلك بهدوء تام,

رائج :   سد النهضة الأثيوبي … القصة وما فيها

لكن والدته قابلت رغبته في الارتباط بي بإعلان الحداد العام وعارضت اختياره لي وإصراره علي الارتباط بي بشدة متناهية واتهمته بأنه يحب فتاة قد تكون عاجزة أو معوقة ولم يكن ذلك صحيحا لأن هذه الجراحات أجريت لي منذ عشر سنوات, ولم يكن من الرحمة أو العدل أن تعاقبني علي ما لا ذنب لي فيه, كما أهانتني والدته سامحها الله وأهانت أسرتي بدلا من أن تقدر لأبي وأمي ما بذلاه من جهد في رعايتي وعلاجي وإسعادي وصورت الموقف علي أنني قد نصبت لابنها فخا وقع فيه باستدراري لعطفه لكي يرتبط بي, وانتهي الأمر بأن عجز هذا الشاب عن تحمل ضغوط أمه عليه, فاعتذر لي عما سببه من آلام وغادر البلاد كلها للعمل في الخارج.

فإذا كنت قد وجدت في نفسي القدرة علي أن أروي لك قصتي هذه فلكي أقدم لأبي وأمي أطال الله عمريهما بعض ما يستحقانه من شكر وعرفان لما قدماه لي من عناية واهتمام وحنان لو ظللت بقية العمر اشكرهما علي ما قدماه لي فلن أفيهما بعض حقهما علي, ولا أملك إلا أن أدعو الله سبحانه وتعالي أن يحفظهما من كل سوء ويهبهما الصحة وطول العمر,وكذلك لكي أقول لك ولقرائك إن الإيمان بالله وقوة الارادة, كانا السر الحقيقي فيما أنا فيه الآن من نعمة الصحة والتوفيق في الدراسة, والحياة السعيدة بين أبي وأمي وأخي حفظهم الله لي,

كما أنني لست ساخطة على أقداري, مادامت إرادة الله سبحانه وتعالي هي التي اختارتني لهذا الاختبار الصعب, وها أنا الآن في أتم صحة وعافية وقد حققت الكثير من النجاح في حياتي العلمية, ومازلت أتشوق للمزيد فإذا كنت اشعر ببعض الآسي علي السنوات الجميلة التي ضاعت فى المعاناة والآلام فأني ارجع إلى نفسي من جديد وأرى الجوانب المضيئة حولي من حب أبي وأمي وأخي لي وتوفيقي الدراسي..وأحمد الله علي كل شيء.. وأرجو رحمته وفضله والسلام عليكم ورحمة الله.

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

إذا كنت تأسين علي سنوات العمر الجميلة التي تبددت في المعاناة والآلام, فلسوف تهديك الأقدار الرحيمة ما هو أجمل منها في قادم الأيام بإذن الله, ولسوف تنهال عليك جوائز السماء فتمسح علي كل الأحزان وتعوضك عن كل ما قاسيت من آلام, ولا عجب في ذلك يا آنستي, فأنت تملكين كل مؤهلات السعادة والتوفيق في الحياة إن شاء الله ـومن أهمها هذه النفس الرضية الراضية بأقدارها وبكل ما تحمله إليه أمواج الحياة, 

رائج :   فراسة .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

وهذا القلب العطوف الذي يتسع لحب الأبوين والأخ الوحيد ويذكر لهم كل ما قدموه له.. ويتفاءل بالحياة بالرغم مما شهدته رحلة العمر من بعض الأحزان.كما انك يا آنستي قد دفعت ضريبة الألم مبكرا واستوفيت حتى الآن نصيبك من المعاناة, وكل ذلك لابد له أن يرشحك لنيل نصيبك العادل من السعادة والهناء, ولم يبق لك إلا انتظار الأقدار السعيدة والتهيؤ لاستقبالها قريبا بإذن الله, ولسوف تكون سعادتك حقيقية كما كانت آلامك من قبل حقيقية.

ولسوف يكون احتفاؤك بها واستشعارك لكل لمحة من لمحاتها صادقا ومضاعفا بإذن الله, لأننا نعرف الأشياء بأضدادها وندرك قيمة الصحة حين نمتحن بالمرض, وقدر الأهل حين يغيبون عن حياتنا, ويزداد إحساسنا بقيمة السعادة حين نكون قد تجرعنا من قبل كؤوس الشقاء, فأما أهم ما يرشحك لنيل سعادتك المستحقة, من بعد إيمانك بربك ورضاك بأقدارك, فهو هذا الإحساس الغامر بالعرفان لأبويك والإدراك العميق لقيمة ما قدماه إليك من حب وعطف ورعاية واهتمام,

فهذا البر بالأبوين والوفاء لهما من أهم مؤهلات السعادة والتوفيق في الحياة, ونادرا ما نعم إنسان بهما في حياته إذا كان قلبه قد خلا من البر بأبويه والعطف عليهما, فإن صادف أحد الجاحدين لآبائهم وأمهاتهم بعض مظاهر التوفيق في الحياة, فإنما لكي يملي الله سبحانه وتعالي له, قبل أن يأخذه ذات يوم أخذ عزيز مقتدر, أو قبل أن يذيقه مرارة ما أذاقه هو لأبويه من مرارة الجحود علي أيدي أبنائه من الجاحدين, فيندم حين لا ينفع الندم, ويرجو لو كان العمر قد طال بأبويه ليصلح ما أفسده بجحوده لهم.

ولقد ذكرتني كلماتك الطيبة عن أبويك,وإحساسك النبيل بأنك لو قضيت العمر تلهجين بشكرهما علي ما قدماه إليك لما وفيتهما بعض حقهما عليك, بما قيل عن أوفي الطيور بأبويه وهو طائر الهدهد الجميل, فلقد قيل عنه انه إذا شاخ أبواه حمل إليهما الطعام وراح يزقهما ـ أي يضع الطعام بمنقاره في منقاريهما ـ كما كانا يفعلان معه صغيرا, وكما يفعل هو مع صغاره, وزعمت بعض الأساطير أن التاج الذي يحمله علي رأسه هو رمز لبره بأبويه ووفائه لهما, فقد قالت الأساطير أن أمه قد ماتت في الزمن القديم وحملها علي رأسه حتى واراها التراب فكافأه ربه علي بره بأبويه بأن منحه تاجا من الريش يزدان به ويكون رمزا لوفائه.

فهنيئا لك يا ابنتي بتاج الوفاء الذي تحملينه الآن علي رأسك وهنيئا لك بما سوف يرشحك له من سعادة وتوفيق في الحياة بإذن الله. فإذا كانت تجربة الارتباط الأولي في حياتك قد خلفت وراءها بعض الجراح, فلعل الأقدار تدخرك لمن هو أحق بك وأقدر علي إسعادك من الجميع, وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الله وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون صدق الله العظيم.. ولسوف يأتيك ما هو في علمه وحده سبحانه حين يأذن بذلك.. إن شاء الله.

مقالات ذات صلة