أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

دموع الصمت .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب إليك يا سيدى لأسألك هل صحيح أنه لا يليق بالرجل إذا كبر وتزوج وأنجب ورأس موظفين وموظفات أن يبكى كلما غلبته مشاعره؟ولكى أعينك على أن تفتيني بالرأي السليم سأشرح لك ظروفي.

فأقول لك أنني تفتحت للحياة فوجدت نفسى يتيم الأب أعيش مع أمى وأختين فى إحدى المدن الصغيرة, يرعانا خالي الذى يقيم فى البيت المجاور لنا وأخ أكبر يعمل موظفا فى القاهرة ولا يزورنا إلا فى الأجازات الصيفية.ورغم غيابه عنا فلقد كان نجم العائلة الذى لا تُرد كلمته فى شأن من الشئون, والمثل الأعلى لى ولشقيقتى الإثنتين.

أما عند خالى فقد كان “الأستاذ” الذى أنهى تعليمه واغترب وتوظف واستحق احترام الآخرين.ولم يكن لأخي الأكبر دور يذكر فى المسئولية المادية عنا فلقد كنا نعيش على معاش أبى وريع قطعة أرض صغيرة. ولم يقلل ذلك من حبنا واحترامنا له لأننا نشأنا على احترام الكبير مهما كان وضعه بيننا, وكانت ظروف حيانا تضطرنا إلى التقشف الشديد وتحرمني من كثير مما أحتاجه,

فكنت أتحمل ظروفي بصبر .. وكنت أقضى العام الدراسي كله ببنطلون واحد وقميص واحد, وأقضى الشتاء ببلوفر أثرى قديم, وحين بلغت المرحلة الثانوية ونما جسمي أصبحت أرتدى ملابس أخى القديمة مهما كان حجمها, وأتحمل سخرية السفهاء من زملائي حين يرون الجاكته التى أرتديها تتدلى تحت ركبتي.وهكذا عشت حياتي حتى حصلت على الثانوية العامة,

وآن الآوان للإلحاق بالجامعة فى العاصمة, وكان أخي عازبا لم يتزوج وقد تحسنت ظروفه المالية وأصبح يركب سيارة صغيرة, فبت أحلم باليوم الذى سأنتقل فيه للإقامة معه فى شقته وأعيش حياته الراقية, ففوجئت بمجلس العائلة يجتمع ويبلغني بأني علىّ أن أبحث لنفسي عن سكن بجوار الكلية التى سألتحق بها لأن شقة أخي لن تتسع لى بحجة إنها بعيدة عن الكلية.وفهمت أن أخى لا يريدني أن أقيم معه لأسباب قدرها هو,ولم أعترض لكنى أحسست بشئ من المرارة.

وشددت الرحال إلى المدينة الواسعة وطفت بشوارعها بحثا عن سكن حتى عثرت على حجره فى بيت خراب بلا مياه ولا كهرباء واتفقت مع اثنين من زملائي على الإقامة فيه واقتسام إيجارها وتكاليف المعيشة فيها, وبدأت حياتي الجامعية وكلى أمل وتفاؤل وواجهت حياة الغربة وحيداً فى المدينة الكبيرة.

وبعد أسبوع توجهت لزيارة شقيقي فى مسكنه الراقي لأقضى يوم الجمعة وأتمتع بدخول الحمام وتناول وجبه طعام شهية, فاستقبلني بفتور وطلب منى عدم زيارته لأن أصدقاءه يزورونه باستمرار وهو لا يريدني أن أختلط بهم حتى لا أنصرف عن دراستي !

وفهمت أنى غير مرغوب فى ظهوري فى عالمه الخاص,وتألمت داخلي ومع ذلك لم أفقد حبي أو احترامي له.

وعدت إلى الشقة مهموماً, وسألني شريكاي عما فعلت مع أخي وماذا أكلت عنده, فرويت لهما قصة خيالية عن فرحته بى حين رآني وكيف عانقني وكيف تغدينا طعاماً شهياً وكيف قدمني لأصدقائه من كبار الموظفين, لكن القصة لم تنطل على أقربهما منى فانتهز فرصة غياب شريكنا الثالث فى المطبخ وسألني عما بى .. فلم أستطع أن أمنع دموعي وأنا أروى له القصة الحقيقية .. ومنذ ذلك اليوم لم أزر شقيقي فى مسكنه حتى تخرجت, وكان هو خلال سنوات الدراسة يزورني مرة كل شهرين فيأتي بسيارته ويتركها فى أول الحارة .. ثم يدخل متأففا من رائحة المجارى التى تنبعث من البيت والشقة,

ويرفض شرب الشاي ويمضى معنا عدة دقائق يسألنا خلالها عن دراستنا كأنه ناظر يفتش فصلا ويسأل تلاميذه عن دروسهم .. ثم ينصرف مودعا منا بالإجلال والإكبار. وعلى هذا الحال مضت حياتي حتى تخرجت وبيعت قطعة الأرض الصغيرة لإتمام زواج شقيقتي .. واحتفظ خالى بما تبقى من ثمنها ليوزعه بالعدل بيني وبين شقيقي عند زواجنا وبدأت أبحث عن عمل.

وبعد شهور جاءني خطاب القوى العاملة وعملت بإحدى المؤسسات, وعمل زميلاي فى الشقة المتواضعة, فقررنا أن نبحث عن شقة أفضل نسبياً, وتمكنا بعد شهور من الانتقال إلى شقة بها ماء وكهرباء وخرجنا إلى سطح الأرض من الحجر الذى عشنا فيه 6 سنوات.

وكنت فى عامي الأخير بالكلية قد ارتبطت بزميلة لى ظللت عاميين طويلين أنظر إليها فى صمت وأرجوها لنفسي بغير أن أجرؤ على مفاتحتها بمشاعري, إلى أن بادرتنى هى فى العام الثالث وشجعتني على مصارحتها وتعاهدنا على الزواج وتركزت أحلامي حولها, فخففت عنى كثيراً من متاعب حياتي. وبعد أن عملت بدأت تطالبني بالتقدم لخطبتها ونظرت فوجدت نفسي شاباً فى الرابعة والعشرين وأعمل .. فلماذا لا أتجرأ على مفاتحة أهلي فى أمر زواجي الذى لن يتم قبل أن أعوام وحدثت أمى وخالى وشقيقتى فرحبوا جميعاً.

ثم جاءت المهمة الصعبة وهى نيل موافقة أخى الكبير الذى لن تتم خطوة بغيرة, فكتبت له رسالة طويلة وطلبت منه فى نهايتها مباركته لمشروع زواجي , وكان حرجى الوحيد فى الأمر هو أنه كان قد بلغ الثامنة والثلاثين ولم يتزوج, لأنه يؤمن بأن الإنسان لا يصح له أن يتزوج إلا بعد أن “يكوٌن” نفسه ويقيم بنيانه كاملا, وتركت الرسالة له فى صندوق بريده وانتظرت أياما فى قلق بالغ أن يفاجئني بزيارته ويحاسبني حساب الملكين قبل أن يعلن موافقته لكن الأيام مضت ولم يزرني.

ثم فوجئت به يدعونني لمقابلته فى شقته فذهبت إليه وجلست مترقباً ما سيقول فإذا به يفاتحني بأنه قد قرر أن يتزوج لأن العمر قد تأخر به, وأنه سوف يحتاج إلى كل ما بقى من ثمن الأرض لأنه سيتزوج فتاة من أسرة كبيرة ويطلب “رأيى” فى ذلك .. فأحسست بغصة فى حلقي وكتمت مشاعري ولم أستطع إلى أن أقول له: ألف مبروك, وفهمت الإشارة بغير حاجه لشرح طويل .. أنه يقول لى إصرف نظراً عن موضوع الزواج وسأتزوج أنا بدلا منك ولن تنال شيئاً من النقود قبل 5 أو 6 سنوات وإن شئت فلن أعطيك منها شيئاً لأني أستحق نصيبك بما ساعدت به الأسرة خلال فترة تعليمك.

وعدت إلى مسكني مهزوماً .. واتصلت بى فتاتى تتعجلني فأبلغتها عجزي وأحللتها من عهدها معى .. فتركتنى ساخطة وتزوج أخى سيدة مطلقة ولها بنت ومن أسرة ثرية .. وبالغ فى الإنفاق على الزواج ليظهر فى مستوى لائق بأسرتها, ولم أشكِ أنا لأحد وواصلت حياتي البسيطة .. وبعد عامين تزوج شريكا السكن وغادرا الشقة وبقيت فيها أعانى متاعب الوحدة وحياة الغربة, وأنجب أخى طفلة وطفلا وسافر عدة سنوات ثم عاد,

وبلغت أنا الثانية والثلاثين وثقلت على حياة الوحدة .. وشكوت لأمي متاعبى وطالبتها بأن تبحث لى عن فتاة مناسبة ترضى بإمكاناتي المحدودة وشقتي المتواضعة. كنت فى حالة يأس من كل شئ فأردت أن أتزوج من أى إنسانة تقبل بى وفى حدود مدخراتي الصغيرة وشجع أخي هذا الاتجاه وطالبني بأن أتزوج فتاة من أسرة بسيطة لكى تقتنع بالحياة معى, لأن زوجته الثرية قد استنزفت ماله بإنفاقها وإسرافها مع حرصها الشديد على ألا تنفق قرشاً من مالها بحجة أن ابنتها أحق به…!

وتزوجت بلا حب من فتاة من معارف الأسرة , وبدأت حياتي معها من الدنيا وعرفت الاستقرار لأول مرة بعد 14 عاماً من الوحدة والاغتراب.

وبدأ أخى يزورني فى شقتي المتواضعة كثيراً ويمضى معى الأمسيات ويرحب بدعوتى له للعشاء, وبدأ يصارحني بمتاعبه مع زوجته وأنانيتها وكبريائها وثوراتها العصبية المستمرة, وقال لى ذات مرة أنه لا يحس بالراحة الحقيقية إلا فى بيتى البسيط هذا, وإنه كان يتمنى لو تزوج من أول فتاة أحبها وعاش معها حياة سعيدة بسيطة كحياتى .. ووجدت الدموع تنهمر من عينى وهو يرقبنى بدهشة.

فشقيقى يشكو لى من زوجته الثرية التى لم يسعد معها, والتى حرمنى بسببها من الإرتباط بمن أحببتها, وحكم على بأن أتزوج ممن لم أحبها .. ولم أستطيع أن أحبها لجفاء طبعها وجمودها وفتورها, وإن كنت أتحمل حياتى معها راضياً .. وبدلا من أن أنقم عليه وجدت نفسى تفيض عطفا وإشفاقا عليه, وهو الذى لم يشعرني يوماً بأي عطف علىّ,

وأصبحت أكثر من السؤال عنه ومن دعوته لزيارتي وأزوره للإطمئنان عليه وأتحمل كبرياء زوجته وأنفتها من أجله, بل ولا أشكو من ذلك لأي أحد حتى لزوجتي, وسافرت فى مهمة عمل إلى الخارج فحرصت على أن أعود محملاً بالهدايا له ولزوجته ولإبنتها بالرغم من أنه قضى فى الخارج 4 سنوات ولم يفكر فى إهدائي شيئاً .. ولم أنقطع عن زيارته حتى بعد أن أهانت زوجته ذات مرة زوجتي بلا سبب, وخاصمت كل منهما الأخرى للأبد ..

ثم جاءت فرصة للعمل فى الخارج فشجعني أخي قبولها وسافرت لمده أعوام عدت بعدها وقد جمعت مدخرات بسيطة, لكن الله بارك فيها فزادت ونمت , وقد عرض علىّ أبناء خالي أن أشترى بيتهم المتهدم بعد أن هجروه لأنهم فى حاجه إلى ثمنه للزواج, فلم تمضى سنوات حتى تضاعفت قيمته وجاءني من اشتراه بعشرة أمثال سعره….

واستقرت أحوالي المادية والحمد لله وكبر أبنائي وترقيت فى عملي, وإن كانت زوجتي قد بقيت على فتور مشاعرها وجمودها وخصامها لى بسبب وبغير سبب, وإنتظارها منى دائما أن أبدأ أنا بالصلح بحجة أننى الرجل .. وأن الرجل هو الذى لابد أن يبدأ. ثم فوجئت ذات يوم بفتاتي الأولى تزورني فى مكتبي وقد إزدادت جمالا على جمالها القديم,

وشكت لى من أن زوجها قد هاجر منذ 6 سنوات إلى أمريكا, ويرفض اصطحابها معه .. ولا يزورها إلا لمدة 3 أسابيع كل سنه, وإنها تتحمل وحدها مسئولية تربية ولدها وطفلتها , فتدفق الينبوع القديم فى داخلي لكنى أوقفته عند حده, ولم أستجب لها حين دعتنى بعد ذلك إلى أحياء حبنا القديم,

وقلت لنفسى أن زمن المغامرات قد انقضى,وما أنا بقادر على أن أتخلى عن إلتزاماتى تجاه أولادى وأتزوجها, ولا انا أستطيع أن أتقبل الخيانة .. أو أحرض زوجة عليها مهما كنت راغبا فيها, فصمدت لمشاعرى القديمة ورفضت مجاراتها فى رغبتها أن تحصل على الطلاق للهجر وتتزوجني وتحملت أنا هذه العاصفة الداخلية وحدي, ولم أصارح أحداً بها حتى الآن فإنعكست على سلوكي وإكتئابي.

ثم زرت أخى ذات يوم بغير موعد سابق ففوجئت بأصوات عالية صادرة من شقته فدخلت منزعجاً, فإذا بزوجته فى إحدى ثوراتها تنهال على أخى بكلمات قارصة مهينة أمامى .. وعزٌ على أن أرى مثلى الأعلى يتعرض للإقامة فهتفت بها أن تحافظ على كرامته أمام أخيه الأصغر .. فإذا بها تواصل إنفجاراتها لاعنة الأكبر والأصغر على السواء فصفعها أخى .. وإزدادت هى هياجاً وكانت فضيحة رقدت بعدها يومين مريضاً بسبب إنفعالى , وغبت عن العمل وامتنعت بعدها عن زيارته ولم أبح لزوجتى بما حدث وكتمته فى صدري.

ويبدو يا سيدى أن المصائب لا تأتى فرادى كما يقول المثل العربى فبعدها بأيام افتعلت زوجتي أزمة جديدة بلا أى سبب وهجرت البيت إلى بيت أبيها .. فتحملت وحدى رعاية الولدين لمدة أسبوعين حتى طاوعتنى نفسى على الذهاب إليها وأعدتها .. فعادت, وعدت وأنا أحس أننا نتقدم معاً فى طريق مسدود ! ورغم ذلك لا أشكو منها ولم أشك منها أبداً حتى لأحد من أهلى أو أصدقائى ..

وبعد هذه الأزمة بأيام أصبت بإغماء فى العمل واستدعوا لى الطبيب فأكتشف إصابتي بمرض السكر .. ولم أنزعج لذلك كثيراً لأنى مؤمن بالله وبدأت العلاج والالتزام بنظام غذائي معين, وبعد عدة أسابيع أجرى لى فحوصا عديدة وانتهى إلى أنه قد طاف بى طائف آخر من مرض جديد يتطلب نظاماً غذائياً أكثر قسوة ويحرمني من معظم أنواع الأطعمة ومن أشياء أخرى كثيرة, فتقبلت قضائي أيضا صابراً وراضيا, ولم أصارح أحدا بمرضى الجديد ..

وأصبح طعامي الآن أقل رفاهية حتى من طعامي أيام التقشف والحرمان .. فكأنى بالحرمان بدأت .. وإلى الحرمان الأشد أعود, مع الحرص الشديد على عدم إجهاد نفسى رعاية للمرض الحديث الذى أرجو ألا تشير إليه .. والحمد لله من قبل ومن بعد.

وأنا الآن يا سيدى لا أشكو لك مرضى ولا حرمانى ولا إفتقادى للدفء العاطفي فى حياتي الزوجية, لكنى أشكو لك شيئا آخر هو أنى قد أصبحت كثير البكاء رغم أنى بلغت الخامسة والأربعين من العمر وزوج وأب ورئيس عمل لا أفتقد الحزم وحسن الإدارة فى عملى.

فإذا ما زارني أخي الأكبر ذات مساء ولاحظت عليه سهومه وإكتئابه وشكا لى من حياته, سالت دموعي لفترة طويلة حتى أصبح هو يتجنب أن يحكي عن متاعبه.

وإذا زارتني شقيقتاى أو زرتهما قابلتهما بالدموع تسح منى كأنى طفل صغير, وإذا شكت لى إحداهما من زوجها جاوبتها دموعي قبل أن يجيبها عقلى وحكمتى, وإذا علمت أن أمى مريضة بكيت طويلا أمام ولدى الصغيرين.

وإذا شاهدت موقفا فى تمثيلية تليفزيونية يقسو فيه أخ على أخيه أو يختصمان ثم يصطلحان أبكى بغزارة, حتى أصبحت أتجنب رؤية معظم التمثيليات. وفى معظم الليالي أجلس وحيدا فى شرفتي وأتذكر بعض مشاهد حياتى فأجد الدموع تنساب منى بلا وعى .. وزاد من المشكلة أن زوجتي لا تحترم دموعي .. فهى إما أن تسخر منى فأحس بالخجل والضيق .. وإما أن تثور علىّ وتتهمي بأنى غير راضى عن حياتي معها وأحب غيرها وأريد التخلص منها .. وقد تؤلمنى بعبارة أو أخرى من نوع “ما تروح تتجوز وتريحنى” فأقول لنفسى صامتاً أين المفر .. من هذا الكرب داخلي وحولي ؟

أننى أسألك هل بكائى هذا حالة طبيعية أم إنه عرض لمرض نفسى علىّ أن أبدأ بعلاجه .. وهل هو عيب حقاً أن يبكى الرجل كما تقول لى زوجتى .. وماذا أفعل لكى أعيش فى سلام .. وأنا أحترم الجميع وأحب الجميع وأتحمل حتى الإساءة من أقرب الناس إلى بلا شكوى .. ودائما أحرص على مجاملة أهلي وأقاربي وأصدقائي حتى وإن لم يجاملوني ! هل عندك تفسير لحالتى هذه ؟.

رائج :   المرأة الداخلية !! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

ليس أقسى على الإنسان من فجعيته فى نفسه وفى أحلامه, وأنت يا صديقى قد سُلبت منك أحلامك ولم تكافح جدياً للدفاع عنها, وأحسست دائماً أنك لا تنال من الآخرين بقدر ما تعطيهم.

ولأنك من أصحاب المثل العليا الذى يلتزمون بالسلوك القويم فى حياتهم وينفرون من الخطأ والإثم والرذيلة ويتوقون دائما إلى النقاء والبراءة والحق والخير, فأنت لا تستطيع إلا أن تمضى فى طريقك كما أنت, ولا تستطيع أن تفكر فى سعادتك الخاصة على حساب تعاسة ولديك وزوجتك, ولا تستطيع أن تعامل من قسا عليك بمثل ما كنت تتمنى أن تعامله به.

ومشكلة أمثالك هى أنهم بقدر حرصهم على ألا يحرجوا مشاعر الآخرين, فإنهم يتألمون لأية إساءة تنالهم منهم, ويتوقعون دائما أن يحرص عليهم الآخرون كما يحرصون هم عليهم, لهذا تتأذى نفوسهم من أى لفتة عابرة قد تؤذى غيرهم, ويميلون عادة إلى كتمان إنفعلاتهم ومشاعرهم كما تفعل أنت, فيحاول أن يتخلص منها بإسقاطها إلى دائرة اللاوعي .. فتستقر فيه حينا, ثم تعود للظهور فى أشكال مختلفة كنوبة بكاء بلا سبب مباشر يستحق البكاء .. أو فى إحساس بالإكتئاب والضيق بلا سبب مفهوم .. أو فى مرض عضوي له أسباب واضحة أو غيرها من الأشكال.

وفى ظنى أن إستشعارك لقسوة أخيك القديمة عليك ووقوفة فى طريق تحقيق حلم زواجك ممن أحببتها, مازال عاملاً مؤثراً فى شخصيتك وفى علاقتك به حتى الآن. ذلك أنك حين أصبحت قادراً على أن تحمى نفسك من ظلمه لك وعلى معاملته معاملة الند للند ,فوجئت بهذا الصرح الكبير فى خيالك يتحول إلى شخص لا يتسحق إلا رثاءك له. وتحولت رغبتك الداخلية فى الإنتصاف لنفسك منه إلى إشفاق عليه وإلى ضغط آخر يضاف إلى ضغوطك الأخرى,

فكأنما كان عبثا نفسيا عليك فى سطوته وبطشه وعبثا مماثلا فى ضعفه وتعاسته, فحاول أن تصفح عما فعل بك صفحا حقيقيا كما صفحت دائما عن كل من آذوك .. لأنك فى حقيقة الأمر لم تغفر له فى اعماقك قسوته الماضية عليك .. ولست ألومك فى ذلك , لكنى أطالبك فقط بألا تسمح للمرارة منه بأن تعيش داخلك للأبد .. ولعل فى حالتك هذه ما يدعو الآخرين إلى أن يرحموا ضعفاءهم من مثل هذه القسوة التى تحفر آثارها فى شخصية الإنسان إلى آخر العمر.

فالقسوة ليست فقط هى القسوة الجسدية وإنما هناك نوع أشد ضراوة هو القسوة العقلية أو الذهنية التى يؤلم فيها الإنسان الآخرين بتصرفاته معهم وبأنانيته بغير أن يمد إليهم يدا بالإيذاء أو يكويهم بالنار. والمحاكم الأمريكية على سبيل المثال تعتبر القسوة العقلية مبررا كافيا للطلاق وتحكم بمقتضاها…فلماذا تعذب الآخرين وفى أيدينا إذا إحتكمنا إلى العدل والضمائر أن ندعهم يعيشون حياتهم سعداء وأن نحيا نحن أيضا إلى جوارهم سعداء؟

إن نصيحتى الوحيدة لك بعد ذلك هى ألا تكتم مشاعرك داخلك وحدك.

فالنفس إناء إذا ضاق بما فيه انفجر, وأنت اعتدت إن تختزن آلامك وتضيف إليها آلام غيرك,فتعلم أن تشرك الآخرين معك فى آلامك وأن تشكو لمن تصطفيهم منهم مما يثقل على صدرك .. وتعلم أن تشكو لأخيك أيضا كما يشكو لك هو, بل ولا مانع من أن تعاتبه عما بدر منه تجاهك فى الزمان الأول لتصفو نفسك تماما من المرارة وتخلص مشاعرك له تماما, فأيسر على النفس أن تبدى رأيك فيما لا تقبله من أن تتكتمه ثم تخلو إلى نفسك فتجتره وحيداً وتزداد وطأته عليك.

أما دموعك فلا عيب فيها…فهى تنفيس عن كل آلامك ومعاناتك ,وهى دموع الصمت التى تعبر عما لا ينطق به لسانك.

وأنت يا صديقى لديك مخزون من الذكريات المؤلمة والإحباطات تساعد حساسيتك المفرطة على إسترجاعها فى كل حين., فلا تخجل من دموعك .. فإنما يبكى أصحاب النفوس الشفيفة التى لم تحجرها ضغوط الحياة ومازلت تهفو لعالم لا يتألم فيه الإنسان..ولا يقسو فيه أحد على أحد …

فإبك إذا أردت حتى تستشفى و انهر زوجتك إذا سخرت منك, وأدع لها الله أن يمنحها بعض رقتك وحساسيتك وشمائلك الطيبة الخيرة, وطمئنها إلى أن مثلك لا يختار سعادته على حساب سعادة غيره, لأن نفسه قد طُبعت على التضحية لإسعاد الآخرين … حتى ولو شقى بهم …

أما عن مرضك الآخر … فهو ليس مستعصى الشفاء, وهو فى رأيى ليس أخطر أدوائك, فكتمانك لمشاعرك وآلامك دائما قد يعرضٌك إذا أستمر لما هو أقسى منه لا قدر الله … فإنج بنفسك يا سيدى من شبح الإكتئاب وتلفت حولك تجد فى ولديك وفى بعض وجوه حياتك الأخرى ما يمسح عنك آلامك واسعد بما أتيح لك من أسباب ,فليس أحق بالسعادة ممن عرف الشقاء … وليس أحق براحة القلب والنفس ممن لا يتمنى للآخرين إلا كل هناء مثلك…مع تمنياتى لك بالصحة وسعادة القلب والروح معا بإذن الله.

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 2004

Related Articles