ابتسمت (إلهام) ابتسامة واسعة، وهي تتطلع إلى وجهها في المرآة ، وإلى ثوب الزفاف الأبيض الذي ترتديه، وأسبلت جفنيها في نشوة، وهي لا تصدق أنها صارت زوجة لابن عمها (صلاح)، على الرغم من كل ما حدث ..
إنها تحب صلاح منذ صباهما ..
منذ لمس قلبهاهما الحب ومشاعره لأول مرة ..
وكان ينبغي أن يتزوجا بعد تخرجهما، لولا أن ظهر(عابد) ..
كانت قد تفتحت كزهرة يانعة، وألهب جمالها القلوب، وأذاب سحرها الأفئدة، وكانت تنعم بكل لحظة تقضيها برفقة حبيبها (صلاح)، ولكنها فوجئت ذات يوم، عند عودتها للمنزل، بوالدتها تعلنها بخطبتها إلى (عابد)، رجل الأعمال الثري، الذي يكبرها بعشرين عامًا دفعة واحدة ..
أيامها بكت، واعترضت، وقاومت ..
ولكن بلا فائدة..
لقد انهزم حب (صلاح) لها، أمام ثراء (عابد)، وانكمش (صلاح) بحبه وفقره، مع حفل زفافها إلى (عابد) ..
ولكن هذا لم يكن العذاب كله ..
لقد بدأ العذاب الحقيقي بعد زواجها من (عابد)، حينما كشفت أنه شخص سادي حقير، يتلذذ بتعذيب الآخرين وإيلامهم ..
ومعه عاشت العذاب والهوان صنوفًا، حتى أتى يوم، خسر فيه كل ثروته بضربة واحدة، وطارده رجال الضرائب، وضيقوا عليه الخناق، فأصابته أزمة قلبية، و…
ومات ..
وفي الحادية والعشرين، وجدت (إلهام) نفسها أرملة ..
وكعادته، لم يترك لها (عابد) قرشًا واحدًا ..
تركها للعذاب والهوان والفقر ..
لولا (صلاح) ..
لقد استثمر (صلاح) أحزانه في عمله، وحقق في ذلك نجاحًا رائعًا، وصار ثريًا شهيرًا محبوبًا ..
ومع وفاة (عبد)، هرع إليها (صلاح)، وتجدد الحب، و ..
والليلة زفافهما ..
اتسعت ابتسامتها كثيرًا، وهي تنتظره في شوق، بعد أن أصر رفاقه وأصدقاؤه على الاحتفال به وحدهم، قبل أن يصعد إليها في حجرتها، في ذلك الفندق الفاخر ..
وفجأة تلاشت ابتسامتها، وحلت محلها نظرة هلع ..
لقد بدا من خلفها ـ في المرآة ـ آخر شخص تتوقع أو تتصور رؤيته في هذه اللحظة ..
زوجها .. (عابد) ..
* * *
أقل ما يوصف به شعور (إلهام) في تلك اللحظة هو أنها كانت تعاني مزيجًا من رعب قاتل، وذهول مميت ..
لقد التفتت بسرعة الصاروخ، وراحت تحدق في وجه زوجها السابق، الذي يبتسم بابتسامة شامتة ساخرة، وقد بدا لها أشبه بشبح عاد من عالم الموتى، ليحط سعادتها ليلة زفافها ..
وفي هدوء ساخر، قال (عابد):
ـ كيف الحال يا (إلهام)؟ .. لم تكوني تتوقعين رؤيتي الليلة .. أليس كذلك؟
خُيل إليها أن ذلك الصوت، الذي خرج من بين شفتيها شاحيًا مرتجفًا، لم يكن يمت بصلة لصوتها الحقيقي، وهي تقول:
ـ من أنت؟!
جلس في هدوء على المقعد المواجه لها، وقال وهو يبتسم تلك الابتسامة المقيتة، التي أبغضتها أشد البغض أيام زواجه بها:
ـ من أنا؟! .. يا له من سؤال ! .. أنسيت زوجك العزيز بهذه السرعة؟
التصقت بمقعدها، وبدا جسدها يرتجف في قوة، وهي تقول:
ـ أنت شبح .. شبح.
أطلق ضحكة ساخرة، وقال:
ـ شبح؟! .. أتتصورين أنني مجرد شبح؟، يكفي إطلاق النار على قلبه ليتلاشى مع رائحة البارود، كما يظن أهل الريف؟ .. لا يا عزيزتي .. إنني رجل حي .. من حلم ودم.
هتفت ذاهلة:
ـ مستحيل!.. لقد وقع الأطباء شهادة وفاتك، وتم دفنك رسميًا، و …
قاطعها ساخرًا:
ـ وهل رأيتِ جثتي بنفسك؟
غمغمت:
ـ لا .. ولكن ..
قاطعها مرة أخرى في زهو:
ـ كانت خطة بارعة محكمة في الواقع .. كنت قد خسرت معظم ثروتي، أو كلها تقريبًا، والضرائب تطالبني بما تبقى منها، لعدم دفعي أية ضرائب طيلة عمري، وكان الحل الوحيد هو أن أموت؛ لذا فقد تظاهرت بالإصابة بنوبة قلبية، ونال الطبيب الذي وقع شهادة الوفاة مبلغًا كبيرًا ليفعل، ثم ابتعت من الحانوتي جثة حديثة، انتزعها من قبر جديد، وتم دفنها باسمي، في مقبرتي، في حين اتخذت أنا اسمًا جديدًا، واستخرجت أوراقًا مزورة، وعدت أمارس التجارة بما تبقى لي من الأموال، حتى صرت مليونيرًا في هذا الزمن القياسي.
انهارت مشاعرها، وهي تردد:
ـ مستحيل !! .. مستحيل !!.
ثم بدت أشبه بنمرة شرسة، وهي تستطرد:
ـ ولماذا عدت؟ .. لماذا تعلن لي عن ذلك، في هذه الليلة بالذات؟
لوح بكفيه قائلًا:
ـ لأمنع حدوث جريمة.
هتفت في مرارة:
أية جريمة؟
استرخى في مقعده، قائلًا في شماتة واضحة:
ـ جريمة زواجك من آخر، وزوجك على قيد الحياة.
حدقت في وجهه لحظة في ذهول، ثم صرخت:
ـ ماذا تريد مني؟ .. لماذا تصر على تحطيمي هكذا؟
برقت عيناه في جذل، وهو يقول:
ـ أنتِ زوجتي شرعًا وقانونًا.
هتفت:
ـ لا .. أنت رجل ميت .. القانون يقول إنك رجل ميت، وإنني أرملة استوفت عدتها، ومن حقي أن أتزوج (صلاح).
ابتسم في شماتة، قائلًا:
ـ وماذا عن الشرع ؟! .. أنتِ زوجتي، سواء وافق القانون على ذلك أم رفضه، وزواجك بـ (صلاح) الآن يعتبر زنا .. أتقبلين العيش معه على هذا النحو؟
اخترقت الحقيقة قلبها كخنجر مسموم، فتفجرت الدموع من عينيها، وهي تهتف:
ـ ماذا تريد مني؟
نهض وعيناه تبرقان ببريق جذل شامت، وقال:
ـ لا شيء .. فقط أريدك لي وحدي.
اتجه نحو الباب في هدوء، وهي تصرخ:
ـ أنت وحش سادي مجنون .. أنت تستمع بعذاب البشر ..
وفي أعماقها صرخت كل مشاعرها ..
لا ..
لن يحطم هذا الرجل حياتها مرة أخرى ..
لن ينتزعها من حلمها، بعد أن صار قيد خطوات منها ..
وفجأة برقت في رأسها فكرة ..
(عابد) رجل ميت ..
ميت قانونًا ..
وفجأة اندفعت نحو تحفة نحاسية ثقيلة، وحملتها، وهوت بها على رأس (عابد)، و ..
وسد (عابد) محطم الرأس ..
وتراجعت هي في ذعر ..
لقد قتلته ..
قتلت الشبح الذي عاد ليحطم حياتها ..
والآن ماذا تفعل ؟ ..
كيف تواجه الأمر ..
أدارت الاحتمالات كلها في رأسها، ثم استقر رأيها على أمر واحد ..
ستواجه (صلاح) بالحقيقة ..
ستقص عليه القصة كلها ..
ومعًا سيتعاونان على إخفاء الجثة ..
ولن يقف أي شيء في طريقهما ..
وفجأة انطلقت من خلقها ضحكة ساخرة ..
ضحكة ميزت صوتها جيدًا، وأدركت من هو صاحبها، وتجمدت لها الدماء في عروقها، وجحظت لها عيناها، وهما تحدقان في جثة (عابد) أمامها ..
كان يرقد جثة هامدة أمام عينيها، وضحكته تنطلق ساخرة خلقها ..
وفي بطء، أدارت عينيها إلى مصدر الضحكة..
ثم تراجعت كالمصعوقة..
لقد كان هو هذه المرة أيضًا ..
كان (عابد) زز
* * *
الأمر كله بدا لها أشبه بكابوس رهيب مخيف ..
كابوس أصر أن يهاجمها في شراسة، في ليلة زفافها ..
وعندما أعادت عينيها إلى حيث كانت جثة (عابد)، كان كل شيء قد اختقى ..
الدماء والجثة ..
كل شيء..
كان (عابد) يجلس أمامها مبتسمًا في شماتة وسخرية، ويقول:
ـ تجربة رائعة .. إذًا فأنتِ مستعدة حقًا لقتلي، من أجل (صلاح) ..
تمتمت في رعب:
ـ إذًا فأنت .. أنت ..
قاطعها في سخرية:
ـ شبح .. نعم .. بالتأكيد .. هل صدقتِ قصة الموت المزيف هذه .. لقد مت بالفعل يا عزيزتي، وأنا الآن مجرد شبح .. عفريت كما يقول العامة .
بكت في مرارة، وهي تقول:
ـ وماذا تريد؟
نهض قائلًا:
ـ لا شيء .. لقد أتيت لأدمر حياتك فحسب، فمن تتزوجني لا يحق لها أن تتزوج غيري .. حتى بعد وفاتي.
هتفت في انهيار:
ـ الم يبدلك الموت ؟! .. ألم يهزم روحك السادية الشريرة؟
ابتسم في سخرية وشماتة وتلذذ، وهو يتجه نحو الباب، قائلًا:
إلى اللقاء يا عزيزتي .. سأحضر كل ليلة لرؤيتك، انتظريني .. كل ليلة.
لم تحتمل أعصابها هذه المرة ..
سيأتي شبحه إليها كل ليلة ..
لا .. مستحيل !! ..
سيدمر حياتها حتى بعد وفاته ..
وفجأة تذكرت عبارته ..
رصاصة في قلبه، ورائحة بارود يخفيانه إلى الأبد ..
وفي حزم، قفزت إلى حقيبة (صلاح)، والتقطت منها مسدسه المرخص، وصرخت وهي تصوبه إلى قلب زوجها السابق:
ـ لا .. لن تحطم حياتي أبدًا ..
وأطلقت النار على قلبه، في نفس اللحظة التي فتح فيها الباب ..
واتسعت عيناها في رعب وذهول ..
لقد اخترقت الرصاصة جسد الشبح الشفاف، واستقرت في قلب (صلاح)، الذي فتح الباب من الخارج في اللحظة ذاتها ..
وتراجع شبح (عابد) في هدوء، وترك صلاح يحدق في وجه (إلهام) في ألم وذهول، قبل أن يسقط جثة هامدة، على عتبة باب حجرة الزفاف ..
وصرخت (إلهام):
ـ لا يا (صلاح) .. لا ..
وعندما اندفعت نحو جثة زوجها، كان شبح (عابد) يتلاشى، دون أن تختفي من شفتيه تلك الابتسامة الساخرة الشريرة ..
ابتسامة شبح ..
________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ المندوب وقصص أخرى ـ رقم 6)