بقلم الكاتب : أحمد كامل
نظرة تاريخية :
دولة عانت من ويلات الإستعمار قروناً بعد قرون .. منذ القرن السابع الميلادي وحتى القرن الرابع عشر تقريباً .. فى البداية احتلتها دولة سيريفيجايا ذات الصبغة الهندية حتى تقسمت تلك الدولة إلى ممالك أصغر .. ثم إحتلها البرتغاليون فى أوائل القرن السادس عشر .. ثم تمكن الهولنديون من انتزاع الحكم فى منتصف القرن السابع عشر .. ثم أخيراً سيطر عليها البريطانيون حتى أوائل القرن العشرين .. تاريخ طويل من الإحتلال و إنتهاك السيادة كان كفيلاً بنهب كثيراً من ثروات تلك الدولة التى لم تكن تعرف حدوداً مؤكده حتى العام 1963 تاريخ تأسيسها ..
أهلاً بكم في جزر المالايو أو كما ستعرف لاحقاً بإسم ماليزيا ..
بريطانيا لم تسيطر فقط على جزر المالايو إنما سيطرت على بورنيو الشمالية التي تضم ساراواك و صباح و سنغافورة .. هذه المناطق ستكون لاحقاً أضلاع مربع الإستقلال الذى سيحدث فى ماليزيا بعد قرون .. استطاعت بريطانيا إحتكار ثروات جزر المالايو و استغلالها فيما يفيد مصالحها عن طريق ذراعها الإقتصادى شركة الهند الشرقية و لأجل إستمرار تلك السيادة على تلك المناطق قامت بريطانيا بمحاولة لتغيير التركيبة السكانية فيها حيث قامت بتشجيع الهجرة إليها بين أوساط الهنود والصينيون مع إغرائهم بإمتيازات تجارية و مالية كبيرة .. مع الوقت امتلأت أسواق جزر الملايو بالعمالة الصينية و الهندية و مع الوقت صارت الأغلبية لهم فى كوالالمبور أهم أقاليم جزر المالايو عبر تاريخها ..
بريطانيا كان من مصلحتها إحداث توتر سياسى و عرقى فى جزر المالايو حتى تنشغل الأعراق ببعضها البعض و تكون هناك حاجة دائمة من الأطراف المتصارعة لقوة أكبر لتحكم بينهم فى اختلافاتهم .. هذا لم يكن موجهاً لجزر المالايو بعينها ولكنها كانت سياسة عامة تنتهجها بريطانيا فى مستعمراتها .. إن توحدت شعوب مستعمراتهم ضدهم فلن تبقى مستعمرة واحدة تحت أيديهم .. كأي أقلية فى أى مكان بالعالم ازدادت علاقات الصينيين رسوخاً و ترابطاً و هو ما أدى لإزدهار أعمالهم و تطورها خاصة أنهم كانوا تجاراً على الأغلب في حين أن عرق المالاى الذي ينحدر منه السكان الأصليين كانوا مهتمين أكثر بالزراعة .. تدريجياً صار الصينيين أغنى من المالاى و الهنود و تراكمت ثرواتهم و أمسكوا بمفاصل الاقتصاد الماليزي تقريباً ..
إستمر الوضع على ما هو عليه حتى احتلت اليابان ماليزيا أثناء الحرب العالمية الثانية ضمن حملتها للسيطرة على آسيا بالكامل خاصة منطقة جزر الهند .. وجود اليابان على أرض ماليزيا و إستخدامها للعنف المفرط نمى داخل الشعب النزعة القومية و صارت هناك فئات من المجتمع تميل للتعاون مع اليابانيين مثل الصينيين و أخرون ضدها مثل المالاى و ظلت الاحتكاكات تزيد و النيران تشتعل داخل النفوس حتى انفجر الوضع عام 1946 واندلعت أعمال العنف العرقى فى البلاد ..
أعدم المالاى الشيوعيين الصينيين و كان لتفاوت الثروة الأثر الأكبر فى تزكية تلك الأفعال حيث شعر عرق المالاى بالإقصاء و هم أهل البلاد الأصليين حيث كانت هناك صفقة متفق عليها و إن كانت غير غير معلنة تنص على أن يهيمن الصينيين على المقدرات الاقتصادية للبلاد فى مقابل أن يهيمن المالاى على المقدرات السياسية فيها مثل مقاليد الحكم والجيش والشرطة .. مع الوقت ازدادت حالة شعب المالاى سوءاً مقابل ازدهار حالة الصينيين و الهنود .. أنت يمكنك توزيع الثروة بين الناس أما السلطة و النفوذ فلا يمكن تقسيمها فيستأثر بها فئة قليلة من الناس .. استمرت نار التعصب للقومية و العرقية هى المرض المزمن الذي عانت منه جزر المالايو حتى بعد استقلالها عام 1957 أو تأسيسها فعلياً عام 1963 ..
استمر الجدل السياسى و الفرقة المجتمعية في الإزدياد بين طوائف الشعب فقام المالاى بتأسيس المنظمة الوطنية المتحدة للملايو أمنوعام 1946 برئاسة عون جعفر لحماية مصالح المالاى و فى المقابل أسس رجال الأعمال الصينيين عام 1949 حزب جمعية الصينيين الملاويين إم سى إيه و برغم أن الحزب الصينى كان يعتبر حزباً معتدلاً إلا أن ذلك لم يسهم كفاية فى حل المشكلة العرقية بشكل كامل .. كان هناك تعارض مصالح واضح بشدة و كان يلزمه مشروعاً ضخماً يساهم فى إذابة الجليد بين العرقيات المختلفة .. تمثل ذلك المشروع فى تفاوض تنكو عبد الرحمن رئيس وزراء سلطنة#قدح مع بريطانيا على توحيد أقاليم جزر المالايو و بورنيو الشمالية فى دولة واحدة و هو ما كان بالفعل ..
ساراواك و صباح و سنغافورة و جزر المالاى سيتحدوا مشكلين دولة ماليزيا ..
لم يدم ذلك الإتحاد كثيراً إذ قامت وسائل الإعلام الماليزية بتصوير سنغافورة بالورم الذى يأكل جسد الأمة الماليزية و أنهم عالة على الدولة و يجب التخلص منهم .. ساهم من تأجيج الإنفصال أن غالبية سكان سنغافورة كانوا من العرق الصينى و كانوا يمثلون 40 % من التركيبة السكانية من ماليزيا الموحدة .. تلاقت الأهداف .. فالمالاى لا يرغبون فى وجود غالبية صينية فى بلادهم و الصينيين يخافون على مصالحهم الإقتصادية من بطش المالاى المتوقع فى أى لحظة .. إنفصال سنغافورة تم بالفعل عام 1965 .. إنقسام هدفه كان إقتصادى بالدرجة الأولى و عرقى بالدرجة الثانية ..
لازال التعصب القومى و العرقى و التفاوت الإقتصادى هو المحرك الأساسى لأى أعمال شغب أو إحتكاك بين أعراق ماليزيا و إستمرار الوضع كان ينبىء بمشاكل أكبر مستقبلاً .. عام 1969 إندلعت أحد أكبر أعمال الشغب فى ماليزيا أسفرت عن مقتل 143 صينى مقابل 25 من المالايو و سببها كان تذمر المالاى و خوفهم على مستقبلهم مع استمرار انحسار الثروة فى يد الصينيين .. بعد تلك الفترة تولى تون عبد الرازق بن حسن رئاسة وزراء ماليزيا و جاء ببرنامج جديد من شأنه إصلاح النسيج المجتمعى الماليزى ..
تون عبد الرازق شعر بخطورة الوضع و تأكد له أن عدم العدالة فى توزيع الثروة والفرص الاستثمارية هى السبب الرئيسى فى التوترات العرقية فى ماليزيا فأطلق رؤيته الاقتصادية الجديدة و التي كانت قائمة على عدة أسس :
- زيادة نسبة سيطرة المالاى على وسائل الإنتاج من خلال إعادة التوزيع و هو ما رفع نسبة مساهمة المالاى فى القطاع الصناعى و التجارى من 2 % إلى 30 %
- إعادة توزيع فرص العمل بما يتناسب مع نسبة العرق السكانية و فى حالة المالاى فقد كانت نسبتهم 55 % من الشعب وكانت أغلبيتهم تمتهن الزراعة و الحرف اليدوية ذات العائد الضئيل
- القضاء على الفقر دون النظر للعرق و هو ما صب فى النهاية فى صالح المالاى أيضاً حيث كانت نسبة الفقر فى بداية تأسيس الدولة حوالى 71 % كان يخص المالاى منهم 75 % أى أن معظم الشعب كان يقع تحت خط الفقر
- قُدمت المساعدات المالية و المنح التعليمية داخل ماليزيا و خارجها ما ساهم فى رفع نسبة المتعلمين تدريجياً
- جعل اللغة المالاوية هى اللغة القومية للبلاد و إستخدامها فى جميع مراحل التعليم مع ضمان حقوق الأعراق الأخرى فى التعلم بلغتهم الأم و لكن تظل المالاوية هى اللغة الأم للدولة
كل ما سبق كان اللبنة الأولى في مشروع كبير سيتعاقب عليه رؤساء وزراء ماليزيا بالتتابع و جميعهم سيسير على نفس البنود مع التغيير فى نسبها لإقرار العدل و المساواه بين كل أفراد الشعب .. العدل هو ما أوصل ماليزيا لنهضتها الإقتصادية الحالية .. بالطبع هناك عوامل أخرى مثل تجاوب الشعب مع البرامج الإقتصادية و دور الحكومات المتعاقبة و حسن تنظيمها للأمور إلى أخره لكن كل هذا لم يكن ليجدى نفعاً لولا الأساس الذي حمل كل البرامج على كتفيه .. العدل ..
استمرت ماليزيا فى التأسيس لنهضتها سنوات قبل أن تقضى تماماً على مظاهر الفقر والجهل والمرض بها .. نهضة تكافل فيها السياسيين والشعب بنفس القدر .. مرت ماليزيا بفترات صعبة إقتصادياً فى زمن حسين أون ثالث وزراء ماليزيا و نائبه الذي سيصبح رئيس وزراء ماليزيا من بعده مهاتير محمد .. صعوبة التحدي يكمن فى تحويل شعباً فقيراً جاهلاً تتفشى فيه الأمراض و متحزب بشكل كبير و تطغى عليه الصراعات العرقية و الطائفية إلى شعب متجانس .. شعب منتج يقدس العمل و يحترمه .. شعب متعلم يحمل أعلى الشهادات العلمية فى العالم .. شعب لا يعانى من الأمراض أو الفقر .. شعب يحارب الفساد بكل صوره .. ذلك التحدى لم يكن سهلاً أبداً و يعود الفضل الأكبر فيه إلى رؤية مهاتير محمد و دأبه فى تطبيق برنامجه الذى نقل ماليزيا تلك النقلة التاريخية .. من الآن فصاعداً سأحاول تسليط الضوء على مظاهر التطور الذى طرأ على ماليزيا بوصول مهاتير محمد إلى السلطة ..
النهضة التعليمية :
حدد مهاتير محمد أولوياته و وضع يده على أسباب الفشل الإقتصادى التى عانت منه ماليزيا لعقود و حددهم ب 3 أسباب .. الفساد .. ضعف الكفاءة .. عدم الأمانة .. ثم بدأ العمل على سد تلك الثغرات و رأى أن لكى تعد شعباً منتجاً لابد و أن يفهم أولاً أن كل ما يحدث سيكون لصالحه و لصالح أبنائه من بعده فاختار التعليم كبداية و هو وزير التعليم السابق و قام بإعداد برنامج شامل لتطوير التعليم فى الدولة شمل عدة بنود أهمها :
- أدخل مرحلة رياض الأطفال تحت سيطرة وزارة التربية و التعليم
- وضع مناهج تغرز روح الإنتماء و حب الوطن فى نفس الأطفال من الصغر
- إهتم بالتعليم الفنى و المهنى بشدة و أنشأ المعاهد الفنية لتأهيل الطلبة لسوق العمل
- أدخل الحاسب الآلى و الإنترنت فى 90 % من مدارس ماليزيا بحلول عام 1996
- طور المناهج بالبعد عن الحفظ و التلقين و إتجه لتنمية المهارات
- إختيار مديرين المدارس و الأساتذة طبقاً لمعايير غاية فى الصرامة
- قام بتحسين أجور العاملين بقطاع التعليم و على رأسهم المعلمين
- زادت ميزانية التعليم فى عهده إلى 2.9 مليار دولار فى 1996 ثم إلى 3.7 مليار دولار فى 2000 بما يوازى 21.7 % و 23.8 % من الإنفاق الكلى للدولة
- طبق إلزامية التعليم مع تجريم عدم إرسال الأبناء للمدارس
- أعطى منح تعليمية لغير القادرين و تكفلت الدولة بمصاريفهم
- أعطى منحاً للتعليم بالخارج
- أرسل بعثات علمية إلى أرقى الجامعات لتخريج جيل يستطيع حمل مسئولية الدولة
- أنشأ أكثر من 400 معهد و كلية خاصة و فعل توأمة بينهم و بين أعرق الجامعات الأجنبية
- أفضل قرار تعليمى له هو ربط البحث العلمى للكليات و المعاهد بالقطاع الخاص
بمعنى أن شركات القطاع الخاص تنفق على الأبحاث العلمية للطلبة فى المراكز البحثية الجامعية مع أحقيتها بالاستفادة بأى بحث أو إختراع ينتج عن المركز لمدة معينة و بذلك وفر عبء مالى من على أكتاف الدولة و فى نفس الوقت نمى قطاع مؤثر جداً فى التنمية و هو قطاع البحث العلمى
الحديث عن ماليزيا و نهضتها خاصة فى عهد مهاتير محمد لم ينتهى ..
ماذا عن نهضتها صحياً و إقتصادياً و سياحياً ..
ماذا عن مكافحة الفقر فيها ..
هناك الكثير الذى لم يروى بعد عن ماليزيا ..