لماذا يفعلون بنا هذا؟!
صرخ نظمي بالعبارة في هلع، وهو يعدو إلى جوار زميله فاضل؛ فرارا من طلقات الليزر القاتلة، التي تتفجر حولهم في كل مكان..
لم يبدُ فاضل بنفس ذعره وهلعه، وهو يشير إلى مبنى جانبي، هاتفا:
– يمكننا أن نحتمي منهم هنا.
اندفع الاثنان إلى المبنى، الذي حوى عشرات من أجهزة الكمبيوتر الهولوجرافية الحديثة، وأغلق فاضل الباب خلفهما في إحكام، في حين راح نظمي يلهث في انفعال، في ركن القاعة الكبيرة، وهو يقول مرتجفا:
– لماذا يحاولون قتلنا؟! نحن صنعناهم لحمايتنا؟!
التقط فاضل نفسا عميقا، وهو يجيب:
– البشر أخطأوا، عندما صنعوا آلات تحميهم… كان ينبغي أن يحموا أنفسهم بأنفسهم.
هز نظمي رأسه في عصبية، وهو يقول:
– لماذا؟! منذ عقود والبشر يعتمدون على الآلات في كل شيء… لقد تم استخدام نظم الحماية الآلية، منذ أكثر من عقدين من الزمان، ولم يواجه البشر قط أمرا كهذا.
حاول فاضل أن يسترخي في مقعده، وهو يقول:
– والآلات أيضا لم تكن بهذه الكفاءة.
صمت لحظات، ثم اعتدل، متابعا في اهتمام:
– عندما تم صنع أول رجل أمن آلي، في أوائل أربعينيات القرن الحادي والعشرين، كان مجرد كتلة معدنية مسلحة، مبرمجة بعدد محدود من الأوامر والواجبات.
غمغم نظمي:
– وكان كل شيء يسير على ما يرام.
وافقه فاضل بإيماءة من رأسه، قبل أن يتابع:
– وفي عام 2047م، ومع الجيل الثالث من رجال الأمن الآليين، حدث ذلك التطور الكبير، في جعل الآليين يبدون في هيئة بشرية تماما، مما صنع شعورا أفضل بالألفة، بين البشر والآليين.
غمغم نظمي في توتر:
– كان ينبغي أن يتوقف البشر عند هذا.
صمت فاضل لحظات، ثم هز رأسه، قائلا في هدوء لا يمكن أن يتفق مع الموقف المتوتر:
– ولكنك تعلم كيف هو العلم بالنسبة للعلماء.. لا يمكن أن يتوقفوا عن محاولات التطوير أبدا.
حاول نظمي أن يكتسب من هدوء زميله بعض الشجاعة، وهو يقول:
– ولم يكن هناك بأس من التطوير، في الشكل والأداء، وحتى في الهيئة شبه البشرية.. وأذكر أنه في عام 2051م صار من العسير تمييز الآلي عن البشري، إلا في انعدام مشاعره.
ابتسم فاضل وهو يقول:
– هذا ما دفع الدكتور عابدين إلى ابتكار تلك الشريحة الفذة، التي أطلق عليها اسم “فيلوترونيك”، والتي زودت برنامج الآليين بمشاعر شبه آدمية، وقدرة على تقييم الأمور، من منظور عقلاني وعاطفي في آن واحد، وخاصة بعد حالة نيرمين، التي قتلها أحد الآليين من باب الخطأ، عندما تصور أنها تمثل خطرا على البشر.
جلس نظمي على أحد المقاعد، قائلا:
– ألم يكن ينبغي أن يتوقف التطوير عند هذا الحد؟!
ابتسم فاضل ابتسامة باهتة، وهو يغمغم:
– إنهم العلماء.
تنامى إلى مسامعهما صوت قذيفة ليزر قوية، فانكمش نظمي ذعرا، في حين بدا فاضل أكثر هدوءا منه، وهو يقول:
– من الواضح أن المعركة محتدمة في الخارج.
هتف به نظمي في عصبية:
– ومن الواضح أنك لا تبالي.
رمقه فاضل بنظرة طويلة، وقال:
– إنه أمر نسبي.
أضاف إلى عبارته ابتسامة باهتة، ثم تابع حديثه الأول:
– شريحة “فيلوترونيك” كانت طفرة تكنولوجية مدهشة، أضاف إليها العلماء شبكة ربط جبارة، تجعل الخبرات الصناعية، التي يكتسبها أحد الآليين، تنتقل تلقائيا إلى الباقين، فيما أسموه “الذاكرة الجمعية الآلية”.
دوى انفجار آخر في الخارج، فعاد نظمي ينكمش، هاتفا:
– كان هذا أكبر خطأ.
اكتفى فاضل بابتسامة، ثم تابع:
– وبين عامي 2051م و2059م، تم تطوير “فيلوترونيك” عدة مرات، حتى ظهرت “فيلوترونيك 5″، التي جعلت الآليين يتعرفون ويتعاملون بأسلوب بشري مثالي، ومع الجلد الاصطناعي، الذي استخدم مع أجسامهم الآلية، صار من العسير أن تدرك الفارق بينهم وبين أي بشري عادي، كما تطورت أيضا الذاكرة الجمعية الآلية، حتى صار الآليون عباقرة، وبدأت الشركات والهيئات الخاصة تسعى إلى توظيفهم؛ نظرا لدقة أدائهم، وقلة شعورهم بالتعب والإجهاد، وقدرتهم على مواصلة العمل لأيام، دون توقف أو انقطاع.
هتف نظمي معترضا:
– وهل يبدو لك هذا منطقيا؟!
بدا وكأن فاضل لم يعر السؤال اهتماما، وهو يواصل:
– وعندما بلغنا عام 2065م، كان الآليون يحتلون الجزء الأعظم، من قطاع الأعمال الخاص، مما تسبب في حالة من البطالة لملايين البشر، الذين تم إحلالهم بالآليين.. ولهذا فقد خرج العاطلون في تظاهرات حاشدة، مع بداية عام 2066 م؛ مطالبين بقصر وظائف الآليين على خدمات الأمن والحراسة، حتى ينفتح سوق العمل أمام البشر مرة أخرى.
غمغم نظمي، وهو يعبث في أزرار الكمبيوتر أمامه:
– لهم كل الحق في هذا.
مط فاضل شفتيه، مكملا دون توقف:
– المشكلة أن “فيلوترونيك 5” كانت متطورة إلى حد مذهل، حتى إن بعض الآليين أصابتهم حالة عجيبة، ليس لها تفسير علمي واضح، لقد نسوا تماما هويتهم الحقيقية، وتصوروا أنهم بشر، واندمجوا في المجتمع باعتبارهم كذلك، حتى إن الهيئة العلمية الدولية، قد رصدت ظهور بعضهم، ضمن التظاهرات التي قام بها البشر.
هز نظمي رأسه، مغمغما:
– ما زلت أذكر هذا.
رمقه فاضل بنظرة هادئة، وابتسامة أكثر هدوءا، وهو يقول:
– ولكن المشكلة الحقيقية ظهرت مع “فيلوترونيك 6”.
اعتدل نظمي وهو يقول في عصبية:
– هنا بدأت الكارثة.
مرة أخرى تابع فاضل، وكأنه لم يسمعه:
– لقد تزايدت أعداد الآليين الذين يرفضون اعتبارهم كذلك، والذين يصرون على أنهم بشر، لهم كل الحقوق والواجبات، حتى إنهم خرجوا أيضا في تظاهرات حاشدة يرفضون التمييز بكل صوره.
قال نظمي في حزم:
– وتصدى لهم البشر بكل قوة.
قال فاضل، مشيرا بسبابته:
– ومن هنا اندلعت الحرب.
ران عليهما معا صمت طويل، استغرق ما يزيد على دقيقتين كاملتين، تخللتهما أصوات الانفجارات البعيدة، قبل أن يحدق نظمي في شاشة الكمبيوتر أمامه، ثم يهتف:
– لدي حل لإنهاء الحرب بين البشر والآليين.
سأله فاضل، في اهتمام شديد:
– وكيف هذا؟!
بدأت أصابع نظمي في ضرب الأزرار الوهمية، في لوحة الأزرار الافتراضية أمامه، وهو يجيب:
– شبكة الذاكرة الجمعية الآلية، تربط كل عقول الآليين بعضها ببعض، وهذا يعني أنه لو تم دس فيروس خاص في تلك الشبكة، فستقوم بنقله إلى كل الآليين على الفور.
بدا فاضل قلقا، وهو يسأله:
– أي فيروس هذا؟!
أجابه، وهو يواصل عمله في حماس:
– فيروس من ابتكاري.. لا تنسَ أنني أحد العلماء البارزين في هذا المضمار، وأنني ضمن الفريق الذي شارك في تطوير تلك الشبكة، منذ سبعة أعوام.
بدا فاضل أكثر قلقا، وهو يسأله:
– وما الذي يمكن أن يفعله هذا الفيروس بالضبط؟!
أجابه في حزم:
– ما أن يصل إلى البرنامج الأساسي للآليين، حتى يصنع حاجز نيران، بينه وبين “فيلوترونيك 6″، ويتلف كل الذاكرة الجمعية لهم، وهكذا يعودون مجرد آلات، تأتمر بكل يأمرها به البشر.
لوح فاضل بيده، وهو يقول معترضا:
– ولكنك بهذا تفسد سنوات من التطور.
أجابه نظمي بكل الحزم:
– لو أن التطور سيقود إلى عبودية البشرية، فالأصح هو أن توقفه بلا تردد.
انعقد حاجبا فاضل في شدة، وهو يقول:
– إنك لا تدرك ما تفعله.
أجابه في حزم أكثر:
– بل أدركه تمام الإدراك.
كان قد انتهى من كتابة برنامج ذلك الفيروس، ثم بدأ في نظام شبكة المعلومات الجمعية، فرمقه فاضل بنظرة شديدة القلق، قبل أن ينهض متجها نحوه، قائلا:
– هل ترى أن هذا هو السبيل الوحيد حقا؟!
أجابه، وهو يدخل بياناته الرئيسية:
– وهل ترى سبيلا سواه؟!
راقب فاضل ما يفعله، وهو يقول في قلق متزايد:
– العلماء يحاولون إيجاد صيغة أفضل.
قال نظمي، وهو ينهي ادخال البيانات:
– في كل لحظة تمضي، هناك بشري يلقى حتفه.
تلفت فاضل نحوه في توتر، قبل أن يقول:
– ولكن هذا قد يؤذي أقرب الناس إليك.
هز نظمي رأسه نفيا في قوة، وقال:
– ليس لدي أقرباء، وأنت صديقي الوحيد العزيز، الذي أشاركه كل أسراري.
صمت فاضل لحظات، ثم قال في توتر:
– في هذه الحالة، هناك ما ينبغي أن أخبرك به.
التفت إليه نظمي، وحاول أن يبتسم، وهو يقول:
– سأستمع إلى كل ما تريد قوله، يا صديقي العزيز.
ثم التفت فجأة إلى لوحة الأزرار الافتراضية، وهو يكمل بكل الحزم والعزم:
– ولكن بعد أن أقوم بخطوة أخيرة.
مع قوله، ضغط زرّ الإدخال، في لوحة الأزرار الافتراضية.
وفي سرعة خرافية انطلق فيروسه إلى الشبكة الجمعية الآلية، وصرخ فاضل في ارتياع:
– ماذا فعلت أيها التعيس؟!
وبنفس تلك السرعة الخرافية، اخترق الفيروس مركز الشبكة، ثم انتقل منها إلى كل الآليين، في كل أنحاء العالم..
وفي لحظة واحدة، توقف عمل شريحة “فيلوترونيك 6″، في كل الاجسام الآلية..
وفي لحظة واحدة أيضا، فقدوا كل ما في أجسامهم الصناعية من مشاعر..
وعادوا مجرد آليين..