قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || جنون

لست أدري لماذا توقفت بالسيارة لألتقطه، في ذلك اليوم الذي انهمرت فيه الأمطار كالسيول ..
ربما لأنه كان يبدو لي بائسًا مسكينًا، وقد أغرقته مياه الأمطار، وهو يبحث عبثًا عن واحدة من سيارات الأجرة، في ذلك الوقت المتأخر ..
وعندما ألقى جسده على المقعد المجاور لي، كان يلهث في شدة، ويغمغم:
ـ شكرًا لك ..

لم يحاول حتى إلقاء نظرة على وجهي، وإنما تطلع أمامه، وهو يجفف وجهه بمنديل صغير قذر، في حين رحت أتأمله في اهتمام، وأنا أنطلق بالسيارة..
كان نحيلًا، طويل القامة، تشف ملامحه عن شيء من الصرامة والقسوة ..
وكمحاولة لاجتذاب وده، سألته:
ـ هل تستمع إلى بعض الموسيقى؟

أومأ برأسه إيجابًا، دون أن ينطق بحرف واحد، فأدرت المذياع في هدوء، ورحت أبحث بين موجاته عن البرنامج الموسيقى، حتى توقفت عند موجة تنبعث منها الموسيقى في نعومة، وواصلت سيري بالسيارة في صمت، حتى توقفت الموسيقى فجأة، وراح المذيع يقول:
ـ سيداتي آنساتي سادتي.. أصدرت وزارة الداخلية اليوم بيانًا، تحذر فيه المواطنين من سفاح هارب.

بدا التوتر على وجه الرجل، واعتدل يستمع في اهتمام، والمذيع يتابع:
ـ وهذا السفاح مصاب بجنون شديد الخطورة، على الرغم من مظهره العادي، فهو نحيل، طويل القامة، و ..
اختلست النظر إلى وجه الرجل، الذي عقد حاجبيه في شدة، ومال برأسه إلى الأمام في تحفز، وراحت يداه تبحثان عن شيء مجهول، والمذيع يردد:
ـ وهذا السفاح، الذي فر مساء اليوم من مستشفى الأمراض العقلية، من النوع الدموي، الذي يحب إراقة الدماء، والقتل لمجرد القتل، ويقول علماء النفس إن هذا النوع من القتلة المصابين بالجنون، يحمل في أعماقه نزعة سادية، وعشقًا لتعذيب الآخرين ورؤية الدماء، و ..

كان جاري قد اعتدل في حدة، عند هذه النقطة، وراح يتطلع إلى وجهي في توتر، ويده تمسك واحدًا من المفاتيح المعدنية، التي تُستخدم لإصلاح السيارة، وترتفع نحوي..
وفجأة ضغطت أنا كابح سيارتي، وتوقفت السيارة في عنف، واندفع جسد الرجل إلى الأمام، وعندما اعتدل في سرعة، كانت يدي ترتفع فوق رأسه بقضيب معدني ثقيل ..
واتسعت عيناه في شدة .

وهويت على رأسه بالقضيب المعدني..
وتحطمت جمجمته في صوت مسموع ..
وتفجرت منها الدماء ..
ولكنني لم أتوقف..
ورحت أضربه وأضربه .. واضربه ..
والمذيع يتابع:
ـ ووازرة الداخلية تطلب من المواطنين عدم استفزاز ذلك السفاح، خشية أن يواجههم بالعنف، فهو ـ كما سبق أن أشرنا ـ يحب رؤية الدماء.

تبًا لهؤلاء المسئولين .. كيف علموا أنني أحب الدماء؟ ..
وانطلقت من حلقي ضحكة عالية مجلجلة، وأنا أضرب الجمجمة المحطمة في عنف ..
والدماء تتناثر ..
وتتناثر ..
وتتناثر ..

________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ تحقيق )

رائج :   السؤال المهم ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

مقالات ذات صلة