قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || حلم

كل شيء كان يبدو مختلفا عما اعتاده..
كل شيء..

السماء لم تعد زرقاء كما ينبغي أن تكون..
لقد كانت حمراء..
حمراء بلون الدم..

وفي حيرة، رفع عينيه إلى السماء..
أي سحب تلك، التي يراها فيها!!
سحب خضراء، قليلة، تعبر تلك السماء الحمراء في سرعة مدهشة، وكأنها زوارق بخارية هلامية، تمخر عباب محيط أحمر قان..

ثم ما هذا الذي يُطل عليه..
ثلاثة أقمار، متفاوتة الأحجام..
بل أربعة..
هناك ذلك القمر، الذي يبرز جزء منه، من خلف قمم الجبال الزرقاء العالية في الأفق..

حتى تلك الصحراء الممتدة أمامه، برتقالية اللون، تتألق وسطها حبيبات أرجوانية، ببريق يشبه بريق الماس..
المشهد كله يبدو أشبه بلوحة قديمة، اختلّ مؤشر الألوان فيها، فمنحها مظهرا مخيفا، لم يألف مثله، حتى في أعمال الجرافيك، التي يتقنها ويحترفها!!

أهو على كوكب آخر؟!
ولكن كيف؟!
لقد أوى إلى فراشه، بعد أن انتهي من عمله، وكان كل شيء حوله طبيعيا تماما..
فكيف يمكن أن ينتقل إلى كوكب آخر؟!
كيف؟!

ثم إنه يتنفس على نحو طبيعي تماما..
لا يشعر بأية صعوبة في أنفاسه..
ولا ثقل..
ولا حتى بأي خلل، في جهازه التنفسي..

أضف إلى هذا أنه من المستحيل أن ينتقل شخص ما، من الأرض إلى كوكب كهذا، في ليلة وضحاها!!
ولكن مهلا..
هذا المشهد يبدو له مألوفا، على الرغم من ثقته في أنه يراه للمرة الأولى..
فكيف يبدو له كذلك؟!
كيف؟!

مرة أخرى، رفع رأسه إلى السماء، وحاول أن يفهم..
كل شيء ما زال مختلفا..
وذلك النجم الضخم، الذي يبدو من بعيد.. أهو الشمس؟!
إنه بالفعل يشبه قرص الشمس..
ولكنه أصغر حجما..
أصغر بكثير..

ثم إن لونه يختلف..
إنه يجمع ما بين اللون البنفسجي في منتصفه، والذي يميل إلى الوردي عند أطرافه..
هل يمكن أن تكون هناك شمس بهذا الجمال؟!
ليس على الأرض بالتأكيد..
شعر وكأن ساقيه ثقيلتان، تحملانه بالكاد، فجلس أرضا، ودفن رأسه بين كفيه..
لا يمكن أن يكون هذا حقيقيا..

إنه حلم..
هو حتما حلم..
امتزج المشهد كله بكلمة “حلم” هذه، والتي راحت تتردّد في أعماق رأسه، وتشير إلى شيء ما، عجز عن إدراكه..

لماذا يعجز عن إدراك الكثير من الأشياء؟!
لماذا يشعر أن ذاكرته تعاني؟!
لماذا تنتشر فيها فراغات، لا يمكنه رتقها؟!
لماذا؟!
لماذا؟!
ثم لماذا؟!

كان يشعر باضطراب شديد، جعله يرفع كفيه عن رأسه، ويعيد التطلَع إلى ما حوله، والحيرة تملأ نفسه..
أهو نائم يحلم؟!
لماذا لا يشعر إذن أنه نائم؟!

النائم لا يشعر بجسده على هذا النحو..
ولا يشعر بما حوله بهذا الوضوح!!
إلا لو كان هذا حلما، لم يمر به من قبل..
أو أنه قد مرّ به، ولكنه لا يذكره..

وفي كل الأحوال، فهذا هو التفسير الوحيد..
أنه حلم..
هو حتما حلم..

ولكن ما يشعر به من اضطراب وضياع، جعله ينقل الكلمة، من حلم إلى كابوس..
نعم.. هو كابوس..
كابوس انتابه بعد عمله الشاق..

لا بد وأن يحرص على عدم تناول تلك الوجبات السريعة الجاهزة، التي تثقل المعدة، وتبعث مثل تلك الكوابيس..

لا بد وأن يحرص على عدم تناولها، قبيل النوم بالتحديد..
نعم.. هذا هو التفسير..
الوجبات الجاهزة، المشبعة بالدهون..

ولكن هل فعل؟!
هل تناول وجبة منها، قبل أن يأوي إلى فراشه؟!
هل؟!

ولماذا لا يذكر هذا؟!
لماذا لا يذكر أي شيء؟!
أهكذا تكون الكوابيس؟!
أهكذا ينفصل فيها الإنسان عن واقعه؟!
عن حياته؟!
عن وعيه؟!

ثم ما هي الكوابيس والأحلام بالضبط؟!
يقول البعض: إن الروح تنفصل عن الجسد، مع أحلام المرء..
وأنها تنطلق هائمة بلا حدود..
تنطلق في عالم آخر..
عالم الأحلام..
والكوابيس..

فهل هذا ما حدث معه؟!
هل انفصلت روحه عن جسده، وهامت عبر الزمان والمكان؛ لتصل إلى هذا المكان العجيب؟!
هل؟!

يا لها من مسافة، تلك التي قطعتها، عبر الزمان؛ لتصل به إلى كوكب آخر!!
لو أن هذا ما حدث، فهي حالة تستحق التسجيل..
حالة خاصة..
خاصة جدا..

ولكن من سيصدقه لو رواها؟!
وماذا سيقولون عنه إن ذكرها؟!
هل سيصفونه بالجنون؟!
أم بالخبل؟!
أم سيتهمونه بأنه يسعى إلى نيل شهرة لا يستحقها؟!

ولكن لماذا يسعى لنيل الشهرة، وهو شهير بالفعل في عالمه؟!
الكل يسعى إليه طوال الوقت..
الكل يعترف بموهبته..
وبعبقريته..
وفنه..

ولكن هل سيغفر له هذا، لو أنه أخبرهم؟!
تجاربه وخبراته تؤكّد له أن الناس لا يرحمون..
ولا يغفرون..
أبدا..

مهما كانت شهرته في مجاله، لن يغفروا له..
سيصبح إما مثار سخريتهم..
أو غضبهم..
أو على أحسن تقدير، شفقتهم..
وستطل من عيونهم نفس تلك النظرة، التي رآها عقب الحادث..

الحادث؟!
كيف لم يذكر ذلك الحادث؟!
لقد كان يعبر الطريق، حاملا جهاز الكمبيوتر الصغير، الذي يحوي كل أعماله، عندما ظهرت تلك السيارة فجأة، و…
وماذا؟!

إنه حتى لا يذكر ماذا حدث بعد هذا!!
كل ما يذكره هو أنه ينظر، بعينين نصف مغلقتين، إلى عشرات الوجوه، والعيون التي تطل منها الشفقة ويرتسم فيها القلق!!

كيف غاب هذا عن ذهنه؟!
وماذا حدث بعدها؟!
هل سقط في غيبوبة ما؟!
أهو ما زال في غيبوبة؟!

السؤال الأهم: هل يمكن أن يحلم خلال الغيبوبة؟!
ولكنه قرأ قديما، أن النائم ينسى معظم أحلامه، بعد أن يستيقظ من نومه..
فهل هذا ما سيحدث له عندما يستيقظ؟!
أو عندما يخرج من غيبوبته؟!

أم إن الغيبوبة أطلقت تلك الطاقات الروحية الكامنة داخله، فانطلقت روحه تهيم بعيدا، عبر الزمان والمكان، حتى بلغت هذا العالم العجيب؟!
انتابه الخوف من أن تكون غيبوبته من ذلك النوع الذي لا يستيقظ منه المرء أبدا؛ فهذا سيعني أنه سيبقى في هذا العالم طويلا..

بل إلى الأبد..
وكلمة الأبد هذه قد تعني لحظة موته..
تلك اللحظة التي تنفصل فيها الروح عن الجسد..
هذا هو الأبد الحقيقي..

عاد يتطلَّع إلى ذلك العالم العجيب من حوله، والذي تخالف ألوانه كل ما أعتاده في عالمه الفعلي..
ويا لها من صورة، ويا له من مشهد!!
لو طلب منه أحدهم رسم صورة جرافيك لعالم آخر، لما أمكنه أن يصنع ما هو أكثر إبداعا من هذا..
تناسق الألوان..
تناغمها..
تلك السحب المسرعة في السماء..
و…

“هذا أفضل أعمالك بحق..”.
انتزعته العبارة من أفكاره في عنف، فالتفت إلى صاحبها، الذي ظهر في المشهد فجأة، واتجه نحوه، وهو يتأمل ما حوله في إعجاب، مستطردا:
– حتى السحب تبدو حقيقية تماما.. أراهن أن هذه القاعة ستصبح حديث المدينة كلها.
هتف به، في شيء من الذعر:
– من أنت؟!

توقف القادم مصعوقا، وحدّق فيه، مجيبا:
– ماذا أصابك يا هيثم؟! أنا أحمد، شريكك في المكتب.
أحمد؟!
نعم.. إنه يذكره الآن..
لقد أسسا معا شركة الجرافيك..
كيف لم يذكره مباشرة؟!
كيف؟!

 

رائج :   الانسحاب الثاني .. رسالة من بريد الجمعة

رائج :   قضية تعرية سيدة الكرم و الحكم ببراءة المتهمين

اقترب منه أحمد، ووضع يده على كتفه، وهو يقول مشفقا:
– منذ ذلك الحادث، وذاكرتك لم تعد كما كانت.. إنك تصاب بنوبات حادة من فقدان الذاكرة، تستغرق بضع دقائق.. من حسن الحظ أن الحادث لم يفقدك موهبتك، ولا قدراتك على الابتكار، وإلا لما فزنا بصفقة تحويل هذه القاعة، إلى عالم فضائي جميل كهذا.

فجأة، استعاد كل ذاكرته..
إنه ليس عالما غريبا..
وليس حلما..

إنه عالم صنعه هو..
ولكنه فقط.. نسي.

مقالات ذات صلة