قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || لو علمتم الغيب

انطلق (حسن غنيم) بسيارته ، في ذلك الطريق المظلم الذي يربط قريته بالطريق الرئيسي، وهو يهمهم بكلمات ساخطة غاضبة، ويعقد حاجبيه في توتر وسخط ..

كان قد خسر منذ قليل ، واحدة من الصفقات ، التي بنى أحلامه وآماله عليها ..

ولم تكن هذه أول مرة يخسر فيها صفقة ..
ولا أول مرة يغضب على هذا النحو ..

كان بطبعه شخصية ساخطة ، ناقمة ، متوترة ، تكره كل ما يمكن أن يمسها بأدنى سوء ، حتى ولو كان هذا السوء من وجهة نظرها فحسب ..

وفي حنق ، هتف حسن : 
“لماذا لا أصبح مليونيرا .. لماذا لا أصل إلى ما وصل إليه غيري؟”

لم يكد ينطق عبارته هذه ، حتى أضيئت الدنيا كلها أمامه بغتة .. في البداية تصور إنها سيارة قادمة ، أو شيء ينفجر ، ثم لم يلبث أن انتبه إلى فجوة عجيبة ، تكونت في الهواء .. وخلفها كان المشهد مذهلا ..

كان هناك طريق ممهد ، وآلات طائرة ، وأشياء أخرى مبهرة ، لم يفهم ماهيتها ، وإن أدرك على الفور أنها نتاج تكنولوجيا مذهلة ، لم تبلغها حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ..

ووسط كل هذا ، كان هناك رجل ..
رجل يرتدي ثيابا عجيبة ، ويمسك بيده شيئا يشبه الجريدة .. وفي ذعر ، حدق كل من (حسن) والرجل في وجه الآخر ، قبل أن يضغط حسن فرامل سيارته ، بكل ما يملك من قوة، ويتراجع الرجل في حدة ورعب ..

ثم دوى ما يشبه الانفجار ..

انفجار مكتوم ، تردد في أذني حسن ، قبل أن تندفع عشرات الأشياء ، لترتطم بمقدمة السيارة ، ثم يهدأ كل شيء ، ويعود الظلام إلى المكان ..

ولثوان، ظل حسن داخل سيارته ، ذاهل العينين، شاحب الوجه ، ثم لم يلبث أن هتف:

“ما هذا بالضبط ؟!”

استجمع شجاعته ، وغادر السيارة، وتطلع أمامه في توتر ، حيث كانت الفجوة ، ثم التقت إلى مقدمة سيارته وزجاجها ، وقد تناثرت فوقها أشياء شتى ، نصفها بالغ الغرابة بالنسبة إليه .. ولكن أكثر ما جذب انتباهه تلك الجريدة ..

وفي حذر، مد يده ليلتقطها ..

كانت جريدة الأهرام المصرية ، ولكنها مطبوعة على شيء يشبه الكاوتشوك ، له ملمس رخو مريح ، وكل الصور والرسوم بها مجسمة ، مطبوعة بأسلوب عجيب ، حتى لتبدو حية متحركة حتى الإعلانات كانت مدهشة .. وبالذات إعلانات العطور .. كل إعلان كان يفوح برائحة العطر المعلن عنه .. وبسرعة ، قلب حسن الجريدة ، ليقرأ تاريخ صدورها ، ثم شهق في انبهار ..

كان تاريخ صدور الجريدة هو الثالث من نوفمبر ، عام ألفين وثلاثين ..

** *** **

هتف (حسن) بكل الانفعال في أعماقه: 
“رباه .. لقد خشيت مجرد التفكير في هذا ، ولكنها حقيقة.. حقيقة تشبه ما نشاهده في أفلام الخيال العلمي .. لقد انفتحت فجوة بيني وبين المستقبل .. فجوة قذفت كل هذه الأشياء بين يدي، ثم تلاشت” ..

كان جسده يرتجف في انفعال وانبهار ، ولكنه أسرع يجمع كل تلك الأشياء ، التي قذفتها فجوة المستقبل، وانطلق إلى منزله في القاهرة ..
وفي حجرته، راح يتلهم تلك الجريدة التهاما .. قرأ كل الأخبار، والمقالات .. وحتى الإعلانات .. وتضاعف انبهاره أكثر وأكثر ..

كان يجوب المستقبل دون أن يبارح مكانه ..

وبدا له هذا المستقبل مبهرا ، حتى أنه هتف: 
“يا للروعة.. لن يصدق مخلوق واحد ما حدث لي.. إنها معجزة:

قلب الصفحة الأخيرة للجريدة المستقبلية ، وتطلع في اهتمام إلى صورة لشيخ وقور ، بدت له مألوفة إلى حد كبير، فتساءل عن اسم صاحبها، و ..

وفجأة، وثب من مكانه، وهو يطلق شهقة قوية ..

وأسفل الصورة ، قرأ بحروف مضيئة عبارة تقول: 
“توفى أمس المليونير المعروف حسن غنيم، وسيقام العزاء في قصره ، في مصر الجديدة”

** *** **

إنه هو …

إنه يقرا خبر وفاته ..

ارتجف جسده ، وألقى الجريدة جانبا ، وراح يلهث في انفعال ..

ليس من السهل أبدا أن يقرأ المرء خبر وفاته ، حتى ولو كانت هذه الوفاة ستحدث بعد أكثر من خمس وثلاثين عاما ..

ثم فجأة انتبه إلى أمور أخرى ..

لقد وصفته الجريدة بأنه مليونير معروف ، يمتلك قصرا في مصر الجديدة ..

لقد نجح إذن ..
أو سينجح ..

لقد عرف هذا الآن ..

راح يطلق صيحات ظفر وسعادة ، وهو يقرأ الخبر مرات ومرات ، ثم لم يلبث أن ألقى الجريدة جانبا ، وألقى جسده على فراشه ، وابتسامة واسعة تلتهم وجهه كله ..

إنه سيصبح مليونيرا..
هكذا يقول المستقبل ..
والأعظم إنه يعرف بالتحديد تاريخ وفاته ..

الثالث من نوفمبر ، عالم ألفين وثلاثين .

إنه أول مخلوق في العالم ، يعرف تاريخ وفاته بالتحديد ..

اعتدل جالسا ، وقال في حزم: 
“لا خوف بعد اليوم إذن .. الموت بعيد عني تماما .. بعيد بأكثر من خمسة وثلاثين عاما”

وفي اليوم التالي ، بدأ حسن صفقاته الناجحة .. كان واثقا من النتائج ، بعد ما قرأه في جريدة المستقبل .. ولأول مرة ، ربح صفقة كبيرة ..
ثم ثانية ..
وثالثة ..
ورابعة …

 

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || جولة أخيرة

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || القلم

وطوال خمسة أعوام ، لم يخسر حسن صفقة واحدة ، وصار ثريا معروفا ..

ثم اشترى ذلك القصر في مصر الجديدة ..
اشتراه وأقام فيه مع أشقائه وأمه ..
ومع الجريدة ..

لم يتخلص منها قط ، بل كان يختلي بنفسه في حجرته أحيانا ، ويقرؤها في سعادة ، وكأنما لم يطالعها قط من قبل ..

وامتلأت نفسه بالثقة ..
إنه سيموت مليونيرًا ومعروفًا ..

وفي موعد محدود ..

** *** **

هكذا أصبح (حسن غنيم) شديد الجرأة والشجاعة ..
وذات يوم ، كان يقود سيارته الجديدة ، وإلى جواره خطيبته ، التي شعرت بالخوف من تلك السرعة الفائقة ، التي يقود بها فقالت: 
ـ (حسن) .. أرجوك.. لا تقد السيارة هكذا ..
أطلق ضحكة عالية وهتف: 
ـ لا تخافي ..لن نموت الآن ..
قالت في ضراعة: 
ـ أرجوك يا (حسن) ..
قهقه ضاحكًا مرة أخرى ، وزاد من سرعة السيارة أكثر وأكثر بلا خوف ..
وفجأة ، ظهرت تلك السيارة الضخمة ..
وصرخت خطيبته: 
ـ احترس يا (حسن) ..
وحاول هو أن يضغط فرامل السيارة ..
ولكن الاصطدام حدث ..
وأظلم كل شيء من حوله .

** *** **

لم يدر كم ظل فاقد الوعي ، ولكنه استعاد وعيه مع آلام رهيبة ، تسري في جسده كله ، فحاول أن يتحرك ، أو يضع يده على عظامه المتألمة ، ولكنه عجز عن هذا تماما ..
ثم سمع صوتا إلى جواره ، يقول: 
ـ خطيبته لقيت مصرعها على الفور ، أما هو فما يزال على قيد الحياة ..
كانت الآلام عنيفة ، ولكنه أدرك أن الذي يتحدث هو طبيبه الخاص ، وحاول أن يشرح له آلامه وعذابه ، ولكنه لم يستطع النطق ، في حين سمع صوت شقيقه يقول: 
ـ وكيف حاله الآن؟
بدا له صوت طبيبه مفعما بالأسى ، وهو يقول: 
ـ إنه أشبه بالموتى فهو في غيبوبة تامة ، لا يستطيع الحركة أو النطق ..
سأله شقيقه في هلع : 
ـ وهل تعتقد إنه سيشفى؟
أجابه الطبيب في مرارة: 
ـ إنه حالة مجهولة ، لم يشف منها شخص قط .. الأرجح أنه سيقضي ما بقى له من العمر ، في هذه الحالة ..
صرخ (حسن): 
ـ ولكنني حي .. أشعر وأسمع .. أنا أسمعكما ..
ولكن صرخته هذه لم تتجاوز أعماقه ..
لم يسمعه أحدهما ..
أو حتى يشعر به ..
وتصاعدت الآلام ..
واشتد العذاب ..
وهتف (حسن) لنفسه: 
ألن ينتهي هذا العذاب أبدا .. رباه .. كم أتمنى الموت ، لينتهي العذاب والآلام ..
لم يكد يفكر في هذا ، حتى انطلقت صرخة في أعماقه ..
صرخة تموج بالرعب والهلع ..
لا.. لن ينتهي العذاب ..
هو وحده يعلم هذا ..
أمامه ثلاثون عاما أخرى من العذاب ..
ثلاثون عاما حتى يموت ..
وانهارت أعماقه في يأس ..
لقد فقد حتى الأمل ..
الأمل في أن ينتهي عذابه بالموت ..
وللمرة الثالثة ، تردد في أعماقه صرخة مريرة ..
ليتني لم أعلم ..
ليتني لم أعلم ..
وظلت هذه الصرخة تتردد ، وتضاعف العذاب ، طوال ثلاثين عاما أخرى
وبلا توقف ..

 

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || سعدية ج2

—————-
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ الشيء)

Related Articles