من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا يا سيدي سيدة في الرابعة والثلاثين من عمري، في سنواتي الأولى بكليتي العملية بدأ الخطاب يتهافتون علي لجمالي اللافت للنظر لكن أبي وأمي أصرا على رفض أية خطبة قبل أن أتم تعليمي وفي عامي الدراسي الأخير تقدم لي شاب وسيم ومركزه مرموق ومن أسرة طيبة فعرضته على أبي وأمي فرفضاه في البداية لأنه في بداية طريقه ولا يملك شقة لكني استطعت بعد محاولات شاقة إقناعهما به فقبلاه على مضض واشترطا تأجيل الخطبة إلى ما بعد تخرجي وتخرجت في كليتي بتقدير جيد جدا وعملت بغير شهادتي في إحدى الشركات الخاصة التي يملكها صديق حميم لعمي وبراتب كبير .
وتم إعلان الخطبة وكنت سعيدة بها لكن المشاكل بدأت على الفور بين خطيبي وبين أبي وأمي على مسائل تافهة جدا سببها الحقيقي عدم قبولهما له من الأصل وتغيرت النفوس مع تراكم المشاكل حتى بدأـ الخلافات بيني وبينه لأول مرة وتصاعدت حتى جاءت مناقشة عابرة بيننا كانت نهاية خطبتنا فأعدت له شبكته وهداياه ولم أندم على تجربة استغرقت من عمري عامين .
وبعد فسخ خطبتي تقدم لي غيره لكني كنت أتردد كثيرا في قبول الارتباط بأي شخص حتى لا أتعرض للفشل مرة أخرى . فمضت السنوات .. حتى بلغت السادسة والعشرين من عمري فجن جنون أبي وأمي كأني بلغت الأربعين وأصبح لا هم لهما إلا زواجي وبأسرع وقت فانطلقا يحضران لي الخطاب من كل مكان لكني أصررت على ألا أقبل إلا من أحس بالراحة النفسية تجاهه وتعرضت لغضبهما ولومهما طويلا وفي هذه الأيام كنت أعمل في الشركة من التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء وتتخلل ساعات العمل ساعة راحة بين الواحدة والثانية نقضيها في الغداء والحديث مع الزملاء والزميلات
وكان من بينهم زميل ارتحت إليه وارتاح لي وروى كل منا للآخر ظروفه كاملة ثم فاتحني برغبته في الزواج مني ووجدتني في لحظة واحدة أتخلص من كل ترددي وأقبله على الفور بل ووجدتني أحبه حبا جنونيا وأراه الرجل الذي أتمناه فهو شاب طيب ووسيم ومكافح وأخلاقه ممتازة واعتاد تحمل المسئولية منذ صغره لأن أبويه مكافحان وله إخوة في مراكز طيبة وعنده شقة مؤجرة مناسبة وكان قد بدأ إلى جانب عمله في الشركة تجارة صغيرة لحسابه تبشر بالنجاح ,
وقد سعدت به وبكل ظروفه بالرغم من أن راتبه يقل عن راتبي مائة جنيه .وحملت سعادتي إلى أبي وأمي وفاتحتهما في أمره ففوجئت بهما يرفضانه لأنهما غير مقتنعين بأني قد بلغت السن التي تسمح لي بالاختيار الصحيح ولأنه لا يملك شقة تمليك كفلان الذي تقدم لي ورفضته ولا يملك سيارة كفلان , ولأن شقته المؤجرة بعيدة عن مسكننا فكيف سنزورك . . إلخ , وسمعت هذه الأسباب ذاهلة ومتعجبة من أنهما لا يعرفان أن أقصى ما تريده الفتاة من الحياة هو أن تعيش مع رجلها الذي اختاره قلبها واختاره قلبه والذي يغمرها بحبه وحنانه وحمايته في أي مكان سواء أكان شقة تمليك أم مؤجرة وان المهم هو أن يبدآ معا ويكبرا معا ويحافظا على ما بنياه لأن ما يأتي سهلا يضيع غالبا سهلا .
وناقشتهما طويلا فذكراني بأني قد أسأت الاختيار من قبل وكانت النتيجة هي الفشل , وان من حقهما علي أن ألتزم برأيهما في هذا الأمر الهام حتى لا أتجرع كأس الندم مرة أخرى .
وخلال هذه المشاورات تقدم شاب يعمل بإحدى الدول العربية عنده كل المؤهلات التي يراها أبواي جديرة بي من شقة تمليك قريبة إلى سيارة إلى بعض الأملاك الخاصة إلى الراتب المغري إلى الأسرة المماثلة لأسرتنا , فعرضاه على فرفضته بغير تردد وأعلنت تمسكي بفتاي الذي أحبه فلم ييأسا مني ودخلا إلى من المدخل الديني لعلمهما بتديني وخشيتي لربي فراحا يلحان علي بقبوله ارضاء لهما لأن رضاء الأبوين من رضاء الله أما الحب فسوف يأتي على مهل بعد الزواج ولن تعرفي الندم ولا الفشل وازداد تركيزهما على الناحية الدينية ووسط حيرتي وتمزقي بين رغبتي في ارضاء أسرتي ورغبتي في التمسك بحبيبي عرضت عليه أن نتزوج سرا ونضع أسرتي أمام الأمر الواقع وقال لي أنه يتمنى الزواج مني من أعماق قلبه لكن زواجنا ليس جريمة لكي نتستر عليها ونخفيها لهذا فهو لن يتزوجني إلا بموافقة أسرتي علنا وأمام الله والناس .
فأكبرته في داخلي وان كنت تمنيت لو كان وافقني لكي يرحمني من حيرتي وعذابي وازدادت ضغوط أسرتي علي يوما بعد يوم حتى بدأت استسلم وجاء يوم كئيب في حياتي كان علي فيه أن أودع فتاي في نفس المكان الذي كنا نلتقي فيه خلال أيامنا السعيدة في بهو أحد فنادق القاهرة فودعته بدموعي وودعني هو بكلمات \امعة قال لي فيها أنه يتنازل عني مرغما وعلى غير إرادته وأنه لن يتزوج بعدي مهما طال الزمن ولم أتحمل أكثر من ذلك فانفجرت باكية وهرولت من أمامه وعدت إلى بيتي ومشاعري تجاه أبواي متضاربة لا أعرف هل يريدان لي السعادة حقا .. أم يريدان لنفسيهما الراحة والشقة التمليك القريبة والزوج الجاهز ماديا وحصلت على أجازة من العمل حاولت خلالها أن أهيئ نفسي للمرحلة الجديدة التي سأبدؤها بعد أيام ..
وراح أبواي يرقبان حزني بقلق ويتساءلان عما وراءه .. وبعد عدة أيام كئيبة عدت إلى العمل فلم أجد فتاي فيه وسألت عنه فعلمت من زملائي أنه استقال ليتفرغ لتجارته رغم رفض المدير لاستقالته وأنه ودع الزملاء وتمنى لهم جميعا حياة سعيدة ولم ينس أن يترك لي معهم تمنياته الطيبة . فازددت اكتئابا ..
وعدت إلى بيتي فوجدت أبي وأمي مشغولين بأمر الخطيب الجديد وفشلت في أن أشاركهما الاهتمام بأي شيء حتى عابا على فتوري وتمت الخطبة ووجدت خطيبي شابا مهذبا كريما للغاية ويحبني جدا وتحبني أسرته وهي أسرة محافظة كريمة .
وبعد 6 شهور تم عقد القران وبالغ خطيبي في كرمه فكتب لي في العقد مبلغ 15 ألف جنيه كمؤخر صداق وتم الزفاف في أكبر فنادق القاهرة .. وشهد حفل الزفاف أجمل الفقرات وطوال فقرات الحفل كانت صورة فتاي الذي وأدت حبي معه تطاردني فأرى في مخيلتي دموعه في اللقاء الأخير وأسمع صوته الهامس وهو يؤكد لي أنه لن يتزوج من بعدي
..فلا أحس بدموعي ويراها زوجي فيظنها دموع الفرح فيمسك بيدي ويقبلها ويقبلني أمام الجميع فأفيق من غفوتي وأتذكر أني زوجة لرجل ينبغي ألا يكون في خيالي غيره فأهز رأسي بعنف كأني أطرد منها صورة فتاي وهكذا طوال الليل وحتى الفجر , وانتهى حفل الزفاف وبدأنا شهر العسل واخترت أن أكمل إيماني بارتداء الحجاب وبعد أيام سافرت مع زوجي إلى مقر عمله في الدولة العربية وواظب أبواي على الاتصال بي تليفونيا وبالبريد وعلى السؤال عن الحمل ..
فأجيبهما كل مرة أنه لم يحدث وكان زوجي الكريم قد استصدر لي رخصة قيادة لكي أقود سيارته الفارهة في أي وقت وأغدق علي بهدايا الذهب والماس وبالنزهات فمضت أيامنا هادئة جميلة ثم فجأة يا سيدي وبعد 3 شهور فقط من الزفاف انقلب زوجي إلى شخص آخر لا علاقة له بالخطيب الذي جاء يطرق بابي ويبالغ في رعايتي وتكريمي كأنما قد استبدل الله فجأة به شخصا آخر يحمل نفس الاسم والملامح
ومازلت لا أعرف حتى الآن متى يتغير الإنسان هكذا فجأة وقد بدأ الانقلاب بأن سحب مني رخصة القيادة ثم بحرماني من الخروج معه ثم بدأ بلا مقدمات يسب ويلعن أبوي وأهلي لأي سبب تافه كأن يعود ظهرا مثلا فيجدني نائمة في غفوة قصيرة من إرهاق العمل لأني أعمل مثله وفي مجال مماثل لمجاله وغلبني النوم وأنا في انتظاره . أو يعود فلا يجد الطعام ساخنا فينهال علي سبا وتقريعا إلى أن جاء يوم عدت ظهرا من عملي متعبة فطهوت وتركت الطعام على السفرة وغلبني النوم فإذا بي أستيقظ على وقع ضربات مؤلمة تنهال علي فانتبهت مفزعة فإذا بزوجي المحب الكريم يضربني بحذاء العمل ذي الكعب الثقيل لأني نائمة والأكل غير ساخن ..
فلم أزد عن أن رددت بلا وعي وبانفعال شديد حسبي الله ونعم الوكيل ..فتركني وخرج ووجدت نفسي أبكي بلا انقطاع لمدة ساعتين .. وتكررت اعتداءاته علي بالضرب ولم أكن أقف ساكتة كما فعلت يوم صحوت من نومي على حذائه , وإنما كنت أدافع عن نفسي بكل قوة لكنه كان يغلبني في النهاية فلا أملك إلا أن أذكره بما أمره الله به من حسن معاملة زوجته فلا يرتدع ..
وأكتب لأهلي بما يجري فيشكوان لأبويه فلا يصدقان وأصبر نفسي بأننا سنعود لبلادنا بعد قليل وهي آخر سنة لنا في الغربة ويجب أن أتحمل وعدت فعلا في أجازة الصيف بلا حمل ولا أطفال لكن شتان بين ذهابي وعودتي .. فلقد سافرت عروسا شابة جميلة محبوبة من زوجها الرقيق اللطيف وعدت سيدة محطمة نفسيا وجسديا ذابلة الوجه والبشرة ورغم ذلك لم أفكر في الانفصال خوفا من الفشل والندم واستقررت في شقتي المجهزة بأفخر الأثاث والكماليات وأملت أن تهدأ أعصابه بعد انتهاء غربتنا وفعلا تحسنت معاملته لي بعض الشيء وعشنا أياما هادئة ثم حدث نفس الانقلاب المفاجئ بعد شهرين وبنفس الصورة وضربني من جديد ضربا مبرحا فحملت جروحي وغادرت شقتي إلى بيت أهله القريب وأشهدتهم على ما يفعله بي ثم ذهبت إلى بيت أسرتي واعتصمت به طالبة منهم ومن ربي حلا لهذا العذاب ,
فلم تمض ساعة حتى جاء ودخل الشقة فلم يسلم على أحد وإنما جذبني بلا كلام من شعري يريد أن يعيدني معه هكذا أمام أبي وأمي وأخي كأني إنسانة من العصر الحجري ولست الفتاة المتعلمة بنت الناس , فلم يتمالك أخي نفسه وهجم عليه يلكمه ويخلص شعري منه فانفجر بالتهديد والوعيد فطرده أبي من البيت وبعد تفاصيل مؤلمة طويلة طلبت الطلاق فطالبني برد الشبكة الماسية والذهب وبالتنازل عن مؤخر الصداق وعن نفقة المتعة وكل حقوقي ففاجأته بقبولي كل ذلك وتنازلت له عن كل شيء ..كل شيء
وتركت له الشقة الفاخرة بما فيها من ذهب ومجوهرات ماسية وتم الطلاق وكان يوم تسلمي لورقة الطلاق يوما أسعد عندي من يوم زواجي وفوجئت يومها ببشرتي المصفرة الذابلة تنتعش فجأة وتسترد نضارتها وحمرتها القديمة في نفس اليوم والله العظيم كأنما مستها عصا ساحر .. وعدت إلى عملي القديم في نفس الشركة واحتفل بي زميلاتي وزملائي , وبعد أيام من عودتي للعمل أردن أن يدعونني للغداء في نفس الفندق الذي شهد لقاءاتي القديمة ووداعي الأخير لزميلي السابق وذهبنا إلى هناك وما إن دخلته حتى استعدت كل ذكرياتي في المكان …
وقد كان دائما مكانه المفضل الذي يمضي فيه أوقات فراغه .وظللت طوال الغداء أعايش صورته وانتهى الغداء وبدأت أشرب الشاي فسمعت إحدى زميلاتي تتساءل : أليس هذا هو فلانا ؟
فرفعت رأسي فإذا به واقف قريبا منا ينظر تجاهنا فما إن رأيته حتى مسني تيار من الكهرباء فانتفضت واقفة وهرولت إليه وهرول هو حتى تصافحنا ضاحكين بلا سبب واقترب معي إلى مائدة الزميلات وهو يقول لي مبروك الزواج يا مدام فقلت له بلا وعي : بارك لي على الطلاق !
فانفجرت الزميلات ضاحكات وضحكنا كلنا في سعادة .
ومرت الأيام سريعة سعيدة وإذا بي أكتشف أنه لم يتزوج فعلا كما قال وكنت أظنها وقتها مجاملة رومانسية رقيقة منه وإذا به مازال هو نفسه الحبيب الذي أحبني وما زال .. ويريدني وتقدم لخطبتي فلم يستطع أبواي الاعتراض هذه المرة ولم أسمح لأحد بأن يتحدث عن شقة قريبة أو شقة بعيدة أو شقة تمليك أو سيارة ..إلخ..
وتمسكت بألا أتزوج إلا في شقته البعيدة التي لم تكن تعجب أهلي وأردت أن نتزوج بلا احتفال فأصر على أن نحتفل بزفافنا في نفس الفندق الذي شهد قصتنا بكل فصولها .. ولأول مرة في حياتي أعرف فرحة الزفاف الحقيقية ودموع الفرح الصادقة ,
وانتقلنا إلى عشنا البعيد وعرفت معنى الحياة الزوجية الصحيحة كما أرادها الله سبحانه وتعالى سكنا ومودة ورحمة ورغم بعد شقتي عن مسكن أهلي فلقد قصرت-بقدرة قادر-المسافات بيننا وأصبحوا يزورونني كثيرا ويحبون زيارتي لأنهم يجدونني في كل مرة سعيدة أزقزق كالعصافير ويجدون في بيتي الراحة والإنسان الطيب الكريم الذي يحبهم ويحسن استقبالهم
ولم تمض على زواجي أسابيع حتى حملت من زوجي الحبيب وتعجبت بلطف الله الذي أكرمني بألا أحمل في زواجي الأول لكيلا يزداد عذابي وأنجبت طفلا جميلا وبعده بسنة ونصف السنة أنجبت طفلة آية في الجمال ورغم نجاح زوجي في تجارته الخاصة فقد عاد إلى عمله السابق ورحبت به الشركة لنكون في مكان واحد نذهب إليه معا ونعود معا وأيامنا تمضي بحمد الله سعيدة ونربي طفلينا على طاعة الله وحب أبويهما واحترامهما وما أردت برواية قصتي هذه إلا أن أتوسل لكل أب وأم عن طريقك أن يتركوا لبناتهم وأولادهم حرية الاختيار ما داموا قد وصلوا للسن التي تسمح لهم بحسن الاختيار وهي في رأيي بعد العشرين لأنها سن النضج النفسي والعقلي وأناشدهم ألا يجبروهم على الزواج بمن لا يرضونه ولا يحبونه لكيلا يندموا كما ندمت ولكيلا يدفعوا ما دفعت من ثمن لأن حكاية الحب الذي يأتي بعد الزواج وبالعشرة هذه كذب وهراء !
ووعد مني وعهد لك يا سيدي ألا أفعل مع ابنتي ما فعله أبواي معي وسوف أترك لها حرية الاختيار مع الاكتفاء بإبداء النصح والإرشاد فقط لأن الفتاة الناضجة إذا اختارت شريك بملء إرادتها وبغير ضغوط نفسية عليها من أهلها فإنه مهما حدث منه ومهما حدث بينهما من مشاكل فسوف تقبله وسوف يقبلها وسوف يتمسكان ببعضهما لأن الحب الناضج يذيب المشاكل كما يذوب الجليد فما عن تطلع شمس نهار جديد على المشاكل حتى يذوب جليد الأمس ويتحول إلى ماء عذب بالحب والتفاهم والقبول بين الطرفين ولك مني ومن زوجي وحبيب عمري أرق أمنياتي والسلام .
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
لو استطاع الإنسان أن يستعيد حياته ويشكلها من جديد لأعفي نفسه من تجارب الألم والفشل والتعاسة ..التي اكتوى بها ولاستبدل بها تجارب السعادة والتوفيق والنجاح لكن من يستطيع أن يفعل ذلك ونحن لا نتعلم الحكمة إلا بالثمن الغالي من أيامنا وشقائنا وتجاربنا الأليمة ؟
أو من يستطيع ذلك والشاعر الانجليزي شيلي يقول :
“علمتنا الأحزان نظم القصيد فقدمنا للناس أنغام الشعر ما تلقيناه من ضربات الألم والشقاء !”
على أن السعادة الحقيقية والحب الصادق يمكن أن يعلما الإنسان أيضا نظم القصيد كما تؤكد رسالتك هذه فأنت تنسجين ما يشبه الشعر في وصفك لمشاعرك بعد أن جمع الله بينك وبين من أخطأت الطريق إليه من البداية ..
وبعض الناس يا سيدتي ينطبق عليهم تصور الشاعر الإغريقي ارستوفانس من أن البشر كانوا في البدء واحدا صحيحا ثم قسمته آلهة الإغريق نصفين فراح كل نصف منهما يمضي عمره باحثا عن نصفه الآخر الملائم حتى إذا التقى به عادا واحدا صحيحا متكاملا من جديد ونحن حين نلتقي بهذا النصف المقسوم كما التقيت أنت بعد تجربتك الأليمة تغرد العصافير التي كانت خرساء في تجاربنا التعسة …ولا يهم أعشنا في شقة تمليك أم في شقة مؤجرة فاخرة أم بسيطة ….قريبة أم بعيدة لأن معاني الأشياء تختلف حينئذ ويصبح للعشرة البسيطة بل حتى مجرد الوجود الصامت في رحاب من نحب ويحبنا متعته العميقة المؤثرة .
وحالك خير دليل على ذلك فلقد تفتحت أنسجتك التي كانت مسدودة مع من أحببت فأنجبت واستشعرت السعادة في الشقة البعيدة التي لا تقارن بالشقة الفاخرة السابقة لأننا لا نسعد بالمكان ولا بالمنقولات وإنما بالبشر الذين يعيشون فيه وعليها معنا .
وفي الحب الحقيقي الذي يستمتع فيه القلب والعقل والروح يصبح “خشب جرير ” أفضل من “تنقيح الفرزدق” فقد كان الشاعر العربي الفرزدق ينقح الشعر أي يراجعه ويغير ويبدل فيه , وكان منافسه وخصمه جرير “يخشب” أي يرسل الشعر إرسالا وبلا مراجعة ولا تنقيح ومع ذلك فلقد كان النقاد يفضلون خشب جرير الأكثر موهبة على تنقيح الفرزدق ,وهكذا حالنا مع من نحب ويحبنا وتتألف معه روحنا …
ولهذا أيضا فقد ظلمت نفسك حين قبلت الزواج الأول وظلمت زوجك السابق أيضا وظلمك له قد يكون أشد لأن من تقبل الارتباط بمن لا تتوافر لديها أدنى درجات القبول النفسي والعاطفي له إنما تظلمه قبل أن تظلم نفسها لأن “تنقيحه ” مهما بلغ لن يعجبها ولن يسعدها وسوف يستشعر بعد قليل أو كثير فتورها وجفاف مشاعرها فتضطرب علاقته بها ..
وربما يدفعه ذلك إلى رغبة خفية في الانتقام منها بغير أن يدرك ذلك أحيانا ولعل هذا هو سر الانقلاب الذي دهشت له بعد شهور قليلة من الزواج فهو في ظني لم ينقلب و إنما صدم في فتور مشاعرك رغم اجتهادك في حسن معاشرته بما أمرك الله به فلم يتصرف تصرف الفرسان ويعرض عليك الانفصال …ولم يصبر إلى أن يكسب مشاعرك مع الزمن وإنما تسلطت عليه نزعاته فآذاك بوحشية لا تليق بالرجال .
وعموما فإن رسالتك مفيدة جدا في فهم كثير من حقائق الحياة كما أنها مفيدة أيضا لكل أب وأم يمارسان ضغطا غير إنساني على أبنائهما لإرغامهم على قبول ما لا يحبون لأنفسهم ولا يرضون به رغم نضجهم وحقهم المشروع في الاختيار لأنفسهم ما داموا راشدين فشكرا لك على رسالتك وتمنياتي القلبية لك ولزوجك بكل شيء جميل في الحياة .