قضايا وأراءكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

الهاتف الصيني || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

هناك لعبة يعرفها الغربيون في الحفلات العامة، اسمها (الهاتف الصيني).

وفي هذه اللعبة البسيطة جداً يقوم اللاعب الأول بسرد قصة معقدة لأول اللاعبين.. يحكيها همساً في أذنه.. مثلاً:
«أمس كنت امشي في الشارع، عندما هبطت أمامي طائرة (ميسير شميت) ألمانية احترق محركها، وكان أدولف هتلر يجلس في المقعد الخلفي، لأنه فر من ألمانيا بينما العالم يحسبه انتحر. وهنا هرع رجل المرور ليسحب رخصته لأنه عطل المرور في شارع سليمان»

يكون على اللاعب الذي سمع القصة أن يحكيها همساً للاعب آخر.. وهذا يحكيها للاعب آخر.. وهكذا بعد عشرة لاعبين مثلاً يحكي اللاعب الأخير القصة بصوت عال:
«أمس كنت في الطائرة عندما سقط جاري مغشياً عليه.. تبين أنه أينشتاين الذي لم يمت، وقام رجال أمن الطائرة باعتقاله وربطه بالأصفاد لأنهم حسبوه إرهابياً.. وهكذا تعطلت حركة الطيران بين تايلاند وماليزيا».

الفكرة هنا أن عدم الدقة يؤدي لتغير في الأحداث من فم لآخر، والنتيجة هي أن القصة تتحول إلى قصة أخرى تماماً، وكل رجل شرطة يعرف أن أسوأ لحظات حياته هي اللحظة التي يعتمد فيها على ما رآه شهود العيان.

رائج :   اكتشف اوروبا: معلومات وحقائق مثيرة عن القارة الاكثر زيارة في العالم

لو كان الشهود أربعة فلسوف يسمع أربع قصص مختلفة تماماً ويكون عليه القبض على أربعة متهمين بأربع تهم مختلفة..

وهي الفكرة التي عالجها العبقري الياباني أكيرا كوروساوا ببراعة في فيلم (راشمون) حيث تسمع ما حدث للزوجة وزوجها مع قاطع الطريق، بخمس طرق مختلفة.

نقاد كثيرون رأوا الفيلم عندما كان يعرض في الخارج وقد حكى كل واحد منهم قصته، فكانت النتيجة أنه حكى فيلماً مختلفاً تماماً ! ولم أعرف القصة الحقيقية إلا عندما رأيت الفيلم بنفسي منذ أعوام…

ننتقل إلى مهنة الطب التي أعمل بها. عندما يذهب المريض لطبيب قبلك، ثم يقرر أن يأخذ رأيك، فهو يحكي لك قصصاً عجيبة تجعلك تشك تماماً في زملاء المهنة.

خذ عندك هذا المريض الذي كان يعاني ألماً عنيفاً عاصراً في الصدر، وذهب إلى طبيب شهير.. ثم جاءني المريض ليقول لي إن الطبيب فحصه وقال له: لا تجر تخطيطاً كهربياً للقلب.. إياك أن تفعل وإلا متّ حالاً!…

أحك رأسي في عدم فهم.. وأستوثق من أنني لست مجنوناً:
«هو قال لك ألا تجري تخطيطاً للقلب؟.. ومنذ متى يقتل تخطيط القلب؟. ومتى يجرون تخطيط القلب إن لم يكن الألم شديداً في الصدر»؟

رائج :   تبــــادل الأدوار‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

فيصر المريض على كلامه حتى أعتقد أن الطبيب الأول هو المجنون حتماً، وأتحسر على مستوى الأطباء الذي يشهد تدهوراً مستمراً..

طبعاً أجري تخطيطاً للقلب فأكتشف أن المريض مصاب بنوبة قلبية شديدة تستدعي
دخول العناية المركزة. بعد أن يتحسن المريض أكرر سؤالي فيحاول التذكر ثم يقول:
ـ«لا.. لم يقل: لا تجر تخطيطاً للقلب.. قال: لا تجر قسطرة لشرايين القلب التاجية الآن»!

ومعنى هذا أن كلام الطبيب الآخر سليم تماماً.. أما لماذا لم يجر تخطيطاً للقلب فقد أجراه، لكن المريض قرر ألا يخبرني حتى يظل رأيي طازجاً محايداً!

مثال آخر للهاتف الصيني في مجال الطب. قريبي هذا رجل مسن يعاني من مشاكل مع غدة البروستاتا وقد أجرى فحصاً لأخذ عينة من الغدة لتحليلها. هناك احتمال وجود ورم سرطاني لا بأس به.

اتصلت به لأطمئن على نتيجة فحص الأنسجة، فقال في ضيق:
ـ«العينة تالفة.. الأنسجة التي أخذوها هي أنسجة من الاثنتي عشر»!

رائج :   مسلسل رمضاني يُعرض في رمضان يأتيك فيها ما يلي

فلو كنت قد نسيت دروس علم الأحياء أو البيولوجي، فلتتذكر أن الاثنتي عشر جزء من الأمعاء.. موجودة هناك في أعلى بطنك إلى اليمين قليلاً.. والبروستاتا هناك في أعمق أعماق الحوض تحت المثانة. لكي يحاول المرء الحصول على عينة من البروستاتا فيخرج بأنسجة من الاثنتي عشر، فعليه أن يكون حماراً.. دعك من أنه حمار يملك منظاراً طوله مثل خرطوم الحديقة.. كأنك تحاول أخذ عينة من إصبع القدم فتأخذها من العين..

أقول لقريبي إن هذا مستحيل فيكرر أن هذا هو ما حدث.. ثم يشتم الأطباء والطب الذي تحول لتجارة.. ويشتمني لأنني طبيب.. الخ..

في النهاية أمسك التقرير بيدي فأجد أن الأنسجة التي وجدوها جاءت من المثانة.. المثانة.. هكذا يكون الكلام معقولاً والخطأ هنا وارد.. أما سبب الخلط – يقول قريبي – فهو أن المثانة والاثنتي عشر تشتركان في حرف الثاء، وهذا يكفي لجعلهما عضواً واحداً!

الهاتف الصيني !.. حدثني أنا عن الهاتف الصيني خاصة في مجال الطب.. ولتحمد الله على أنك لست رجل شرطة مطالباً باستخلاص كلام مفهوم من شهود الحوادث.

Related Articles