أجمل رسائل بريد الجمعة

قانون السماء ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

ترددت كثيرا قبل أن أكتب إليك ثم دفعني دافع لكي أفتح قلبي وأروي لك عما يشغلني, فأنا رجل متوسط العمر أحمل مؤهلا فوق المتوسط.. بدأت حياتي العملية من الصفر, فعملت في وظيفة صغيرة بالحكومة.. ورحت أعطي دروسا خصوصية لتلامذة المرحلة الابتدائية بالمدارس الأجنبية, حققت في هذا المجال نجاحا كبيرا وازداد الإقبال علي حتي إنني كنت لا أجد وقتا لتناول الغداء إلا خطفا وأنا واقف..

وطرق الحب باب القلب فانفتح له.. وأحببت قريبة لي تصغرني بعشر سنوات, وتزوجنا في شقة أبي بعد رحيله عن الحياة رحمه الله.. وأقمت مع أمي وشقيقي الأصغر.. فاستقللت بحجرتين منها واستقلت أمي بحجرة وأخي بالحجرة الرابعة.. ومضت بنا الأيام دافئة وجميلة.. وأنا أتبادل الحب الخالص مع زوجتي وأرعي أمي.. وأستبشر بدعائها كل يوم, وأسعد بحبها لي ولزوجتي التي بادلتها أيضا حبا بحب وأحسنت رعايتها, وتهرع لخدمتها في غيابي.. وتحثني علي البر بها لكي يشملنا الله سبحانه وتعالي برعايته..

ثم سافر أخي الأصغر للعمل بإحدي الدول العربية.. وأصبح المنزل الذي نقيم به آيلا للسقوط.. ولكن من أين لي بالمبالغ الكبيرة التي يتطلبها الحصول علي شقة أخري بالإيجار أو الشراء؟. وكان الحل هو أن أسافر للعمل مع أخي الأصغر.. ولم يمض وقت طويل حتي كان أخي قد وجد لي فرصة معه.. واستأذنت أمي في السفر, مؤكدا لها أن زوجتي سوف ترعاها في غيابي بأفضل مما كانت تفعل في وجودي, وشرحت لها أسباب السفر, وأكدت لها أنني سأعود بمجرد توفير قيمة خلو الرجل المطلوب للانتقال إلي شقة مناسبة..

وودعتني أمي بالدعاء الحار وسافرت وعملت لمدة عام واحد رجعت بعده ووضعت كل ما أحضرته من نقود وهدايا بين يدي أمي للتصرف فيه, وعدت إلي عملي السابق وبحثت عن شقة أخري إلي أن وجدتها وانتقلنا إليها أنا وأمي وزوجتي والطفلان.. وبعد انتقالنا إليها بأسبوعين فقط رحلت أمي عن الحياة راضية عني وداعية لي بالخير والسعادة, وأعانتني زوجتي بحنانها الغامر علي تجاوز حزني علي رحيل أمي, وكان قد تبقي معي بعد دفع الخلو مبلغ لا بأس به فبدأت أستثمره في تجارة صغيرة, فأشتري الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية من المزادات وأبيعها بالتقسيط, ورزقني الله برزق أطفالي وبفضل رضاء أمي عني يرحمها الله..

وتحسنت أحوالي المادية بالتدريج حتي تمكنت بعد سنوات من الانتقال إلي شقة تمليك بمصر الجديدة, وأديت فريضة الحج, ونذرت لله أن أؤدي الفريضة عن أبي وأمي اللذين لم تسمح لهما الظروف بأدائها.. وحججت بالفعل عن أبي وأمي واصطحبت زوجتي الحبيبة معي في المرة الأخيرة, وتقدم الأبناء في العمر ومراحل الدراسة, فبلغت الابنة الكبري السابعة عشرة والابن الرابعة عشرة وبعد عودتنا من الحج بشهر واحد فوجئت بزوجتي تهمس لي في خجل بأنها حامل وتريد أن تجهض نفسها قبل أن يموت الجنين حتما في بطنها, لأنها لم تأخذ الحقنة اللازمة عقب آخر ولادة لها وبالتالي فلديها أجسام مضادة سوف تقتل الجنين..

فرفضت بإصرار فكرة إجهاضها وأكدت لها أن هذا الجنين هدية لنا من السماء وإذا شاءت الإرادة الإلهية له أن يكتمل فلسوف يكتمل ويجيء إلي الحياة مهما تكن الأحوال.. واستشرت طبيبا متخصصا فطمأنني إلي أن هذه الأجسام المضادة تموت بعد6 سنوات من آخر ولادة وبالتالي فلا خطر علي حياة الجنين بإذن الله.. وسعدت بذلك كثيرا.. وشعرت بأن الحياة تتجدد حولي وتزداد إشراقا, وأرجعت ذلك كعادتي إلي رضاء أمي عني يرحمها الله.. وجاء موعد الولادة..

فرزقنا الله بطفل كالبدر المنير في جماله.. ولم ينزل اللبن من صدر أمه فأرضعناه صناعيا تحت إشراف الطبيب, وجاء الخير علي المولود الجديد فترقيت في عملي حتي صرت مديرا, وازداد رزقي, وازداد إحساسي بدفء الأسرة والأبناء.. وأصبحت أتعجل عودتي إلي البيت كل يوم لأداعب طفلي الوليد.. وأراقب نموه يوما بعد يوم.. واصطحبت زوجتي ومولودنا الصغير لأداء العمرة.. وشكرت ربي طويلا في البيت الحرام علي نعمه الجليلة علي.. قلت له: يارب لقد كنت فقيرا فأغنيتني.. ومظلوما فنصرتني, وضعيفا فقويتني فلك الحمد والشكر آناء الليل وأطراف النهار وفي كل حين,

ومضت بنا الأيام.. ودرج طفلي الصغير علي الأرض زاحفا.. ثم ماشيا.. ثم جاريا.. ثم أصبح محور البيت الذي يملؤه صخبا وبهجة وسعادة وسافرت لأداء العمرة وحيدا في العام التالي ورجعت فاستقبلتني زوجتي بالبكاء لأول مرة.. وسألتها عن السبب.. فإذا بها تقول لي إنها قد شعرت لأول مرة خلال غيابي بأننا قد لا نلتقي مرة أخري فتشاءمت لذلك واكتأبت, واحتضنتها مطمئنا إياها أن الأعمار بيد الخالق وحده سبحانه ومضت بضعة شهور أخري, ثم دخل زوج شقيقة زوجتي مستشفي القوات المسلحة بشارع العروبة لإزالة ورم,

ورجعت من عملي ذات يوم متعبا فوجدت زوجتي قد أعدت بعض الطعام وتستعد للذهاب به إلي المستشفي بمجرد رجوعي, فطلبت منها أن تنتظرني حتي أستريح بعض الوقت ثم أخرج معها لزيارة زوج شقيقتها.. وتناولت الغداء ودخلت الفراش لأغفو قليلا فاستغرقت في نوم ثقيل, واستيقظت علي يد زوجتي تنبهني وتقول لي إنني متعب ومن الأفضل لي أن أواصل النوم وآذن لها هي بالذهاب إلي المستشفي مع طفلنا الصغير علي أن ألحق بها فيما بعد,

وأذنت لها بذلك وأنا بين الصحو والنوم.. وغفوت مرة أخري.. فلم يمض وقت طويل حتي كان رنين التليفون يدوي في الشقة كالنذير.. ويحدثني من يبلغني بأن حادث تصادم قد وقع وأصيبت فيه زوجتي وطفلي فنقلا إلي المستشفي القريب وهرولت إلي هناك وأنا لا أشعر بما حولي..

ووجدت زوجتي التي أخلصت لي الود والعشرة وكانت نبعا للحب والحنان والخير للجميع قد رحلت عن الدنيا ورحل معها طفلي الصغير الذي جدد الحياة في عروقي وأنار الدنيا من حولي, وعرفت بعد أن أفقت من صدمتي, أنهما كانا يسيران فوق الرصيف أمام الباب الرئيسي لمستشفي القوات المسلحة فجاءت سيارة يقودها شاب مستهتر عمره 20 سنة مدمن هيروين وبجواره فتاة, وفي الخلف شاب آخر وفتاة أيضا, فصعدت السيارة علي الرصيف وقتلت الزوجة والابن وأطفأت شمعة السعادة في حياتي, وهرب الجناة تاركين السيارة القاتلة وراءهم..

وانتابني حزن وألم شديدان وزهدت في الطعام والشراب والعمل وكل شيء.. ثم لجأت إلي عوني الوحيد في الحياة وهو الله سبحانه وتعالي فأكثرت من الصلاة وقراءة القرآن.. والدعاء لزوجتي وطفلي الحبيبين.. وتماسكت بعد حين واحتضنت ابنتي الشابة وابني, وحاولنا أن نتقبل حياتنا في غياب الصدرالحنون الذي كان يحتوينا جميعا وتابعت التحقيق في حادث التصادم وكلي أمل في أن يلقي الجاني المستهتر عقابا رادعا يطفئ بعض ناري أو يشفي غليلي,

وانتهت محاكمته ففوجئت بالقاضي يحكم عليه بالسجن سنة واحدة لا غير أمضي منها ستة شهور ثم أفرج عنه لقضاء نصف المدة وخرج إلي الحياة من جديد لكي يواصل استهتاره وعبثه بأقدار الآخرين واشتري له والده الكيميائي بإحدي الدول العربية سيارة جديدة ليقتل بها المزيد من الضحايا!

وتبين بعد ذلك أن أهل الجاني وهم أصحاب مال ونفوذ قد أثروا علي ضابط مباحث الشرطة التابع له الحادث فلم يقبض علي الجاني علي الفور لكي يتم تهريبه إلي الإسكندرية وإدخاله المستشفي لعلاجه من الإدمان, وتجاهل شهادة حرس المستشفي الذين أكدوا وجود فتاة إلي جوار الشاب المستهتر لأن والدها لواء شرطة سابق, فضلا عن اختفاء الرسم الكروكي لموقع الحادث, وبعد 16 يوما من الحادث سلم الجاني نفسه للشرطة وزعم أنه صدم زوجتي وطفلي في الطريق العام وليس فوق الرصيف, وأنه كان وحيدا في السيارة.. إلخ,

وكانت النتيجة هي هذا الحكم المخفف بالرغم من أن تقرير وردية الشرطة اللاسلكية التي انتقلت إلي مكان الحادث أثبت أن السيارة توقفت علي بعد 40 مترا من الموقع مما يدل علي أن سرعتها لم تكن تقل عن 170 كيلو مترا.

لقد تقدمت بشكاوي عديدة للنيابة أطلب التحقيق في كل ذلك, وشكوت للسيد وزير الداخلية فأمر بالتحقيق مع ضابط المباحث وتم نقله إلي حرس الجامعة.. وما أكتب لك بشأنه الآن هو أنني أشعر بأن الجاني لم ينل ما يستحقه من جزاء, وأري أمامي زوجتي وطفلي والسيارة القاتلة ترفعهما في الهواء, يستغيثان بي لكي أقتص لهما ممن حرمني منهما,

وهذه النار تحرقني كل يوم ألف مرة حين أدخل مسكني فلا أسمع فيه صوت زوجتي الحاني ولا صوت طفلي البهيج, وأشعر برغبة قوية في القصاص لهما.. لأن هذا هو قانون السماء.. فإما دية مسلمة إلي أهل الضحية وإما القصاص العادل, وما ناله هذا الشاب المدمن المستهتر لم يكن قصاصا عادلا.. بسبب تواطؤ ضابط مباحث, وجهود محام استغل قدراته في إنقاذ جان من العقاب الرادع, وأهل استخدموا مالهم ونفوذهم في حماية ابنهم.

إنني مصمم علي القصاص.. وعلي تنفيذه بنفسي.. وأريد أن أسمع رأيك وأن تقدم لي النصيحة المخلصة لأنني كنت أتصور أنني قد تجاوزت سنوات العناء والكفاح وآن لي أن أستريح وأستمتع بأسرتي وحنان زوجتي.. ومرح طفلي الصغير وحب ابنتي وابني.. وكل ما رزقني الله به من عطايا وهبات.. فإذا بكل ذلك ينهار فجأة بسبب شاب مستهتر قاتل!

رائج :   المأزق ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أنت محق بالفعل يا سيدي في حزنك علي اغتيال زوجتك وطفلك الصغير وسعادتك العائلية بمثل هذا الاستهتار القاتل, ومحق أيضا في غضبك لتواطؤ البعض علي حماية الجاني ومساعدته علي الإفلات من العقاب الرادع حتي جاء حكم القضاء عليه رفيقا هينا وكأنما لم يزهق أرواحا ولم يهدم سعادة أسرة بأكملها.

ولقد أري معك أن القصاص العادل يشفي النفوس من بعض حرقتها علي من فقدتهم ويعفي المكلومين من الرغبة في الانتقام ممن هدموا سعادتهم, لكن ماذا يجدينا أن نحترق نحن بالرغبة في الاقتصاص ممن نحمله مسئولية حرماننا من السعادة, وانتقامنا منهم لن يعيد إلينا غائبا ولن يرد علينا يوما واحدا من أيام السعادة المفقودة؟

لقد تولي عنا المجتمع, ممثلا في سلطة القانون, هذه المسئولية وأعفانا منها بغض النظر عن عدالة حكمه في مثل ظروفك هذه أو بعده عن العدل, وفي كل الأحوال فإنه ليس من صالح الحياة حتي ولو لم يسعفنا القانون في الاقتصاص لنا أحيانا أن نتولي نحن إصدار الأحكام علي الآخرين وتنفيذها بأيدينا, وإلا ارتدت الحياة إلي الهمجية واضطربت موازينها.

وقانون السماء ليس القصاص وحده وإنما هو العدل والرحمة والتسامح والحب بكل القيم السامية التي تجمل الحياة وتكبح نوازع العدوان في نفوس البشر.

والإنسان ليس في حاجة ـكما أومن دائماـ إلي أن ينتقم من ظالمه بيده, لأن قانون السماء سوف يعفيه من مئونة ذلك ويقتص له ممن أساء إليه بغير أن يلوث هو يده بدمه, ولن يطول الأمد حتي يكون الجاني قد أدي ضريبة ما فعل من حياته أو سعادته أو صحته أو ماله أو بنيه. فحتي لو بدا لنا أنه يمضي في الحياة سالما من كل سوء, فإن ما ينتظره من عقاب السماء قد يهون إلي جواره كل عقاب الأرض ما لم يتبرأ هو من جرمه ويندم عليه ندماصادقا ويكفر عنه ويطلب الصفح والعفو من أصحاب الحق عليه.

ولقد كان المفكر الفرنسي جان جاك روسو يقول إنه في أوقات الضيق يتسلي بالتفكير فيما سوف يناله الظالمون من عقاب صارم علي مظالمهم في السماء! وأنت يا صديقي لديك الكثير مما هو أهم من التفكير في الاقتصاص من هذا الشاب المستهتر, لكي توليه رعايتك وتركز عليه فكرك في المرحلة الحالية.

فهناك أسرتك التي فقدت واسطة عقدها برحيل زوجتك عن الحياة, وتحتاج منك إلي كل وقتك وفكرك لكي تحفظ عليها كيانها وتحميها من الانفراط وتدفع عنها أشباح التعاسة والحزن, وهناك ابنتك الشابة وما تتطلبه رعايتها والاهتمام بأمرها من جهد وطاقة, فضلا عن التفكير في مستقبلها والاستعداد له.. وهناك ابنك الفتي وما يحتاج إليه من فهم خاص لنوازعه وهواجسه وأفكاره في مرحلة المراهقة لكي يجتازها بسلام ويلتحق بالجامعة ويحقق أهدافه وأمانيه.. وهناك عملك وحياتك الشخصية وأهلك وعلاقاتك الإنسانية مما يستحق منك أن توجه إليه بعض اهتمامك ووقتك.. فلماذا تحصر فكرك في أمرهذا الشاب المستهتر وحده؟

لقد نال عقابه كما رآه المجتمع حتي ولو كان هذا العقاب غير عادل ولا يشفي لنا غليلا.. وهو بعد ذلك لا يستحق منا أن ننشغل به أو أن يشغل من فكرنا أية مساحة.. وإنما علينا أن ندعه للقانون الإلهي الذي يقول لنا إن ما لا نناله من العدل في الأرض سوف ندركه في السماء بغير جهد منا ولا عناء فتسل أنت أيضا حين يشتد بك الضيق بالتفكير فيما سوف يناله ظالموك من عقاب رادع في السماء حين يحين الأوان.. وواصل الحياة مستعينا علي عنائها باستعادة ذكريات الأيام الجميلة.. وأثرها الباقي في النفس, ولسوف تتفتح الورود مرة أخري في حياتك ذات يوم قريب.. والله المستعان علي كل أمر عسير.

مقالات ذات صلة