وبأدق التفاصيل..
القتيل الملقى في ركن الصالة..
السكين الذي تلوث الدماء نصله على الأقل..
الدم المتناثر على الجدار..
كوبيّ المشروب على المائدة..
راجعت كل هذا ببصري في سرعة، قبل حتى أن يستقبلني ضابط المباحث في ترحاب:
– دكتور علي.. يبدو أننا سنحتاجك مرة أخرى.
صافحته في هدوء، وأنا أقول:
– السكين لن يحوي أي بصمات.
أدهشته مبادرتي هذه، فغمغم مرتبكا:
– رجال المعمل الجنائي لم يبدأوا عملهم بعد.. لقد رأينا أنه من الأفضل استدعاء خبير مسرح الجريمة أولا.
قلت في ثقة:
– لن يجدوا شيئا.
بدا متحديا، وهو يسألني:
– وكيف يمكنك الجزم؟!
أشرت بيدي، مجيبا:
– عندما وصلت، لم يكن هناك أثر لكسر قفل الباب، أو ما يوحي بحالة اقتحام عنوة، وكوبيّ المشروب يدلان على أن القتيل قد استقبل قاتله بالترحاب ودعاه إلى مشروب، مما يوحي بأنه لم يكن يتوقع منه شرا، ولقد قضيا مع بعض القليل من الوقت، بدليل أن المشروب في الكوبين ليس مكتملا، ولقد طلب القاتل شيئا ما من القتيل، وعندما نهض لإحضاره نهض القاتل خلفه، وبالقرب من المطبخ شعر القتيل به خلفه فالتفت إليه، وهنا باغته القاتل بضربة سريعة في عنقه بهذا السكين، فتناثرت دماؤه على هذا الجدار المجاور للمطبخ، وستجد بعض الدماء متناثرة في وضوح على أرضية المطبخ، مما يؤكد أن الجريمة قد تمت على بعد خطوة واحدة منه، وعندما سقط القتيل فرت القاتلة من المكان.
بدا ضابط المباحث مشدوها، وهو يهتف:
– قاتلة؟! وكيف يمكن أن تجزم بأنها قاتلة، وليس قاتلا.
شعرت بالإشفاق عليه، وعلى المنظومة الأمنية التي وضعته في موقعه هذا، وأنا أجيب:
– إننا أمام جريمة قتل، مع سبق الإصرار والترصد.. وعندما تستقبل في منزلك شخصا، يخطط لقتلك سيثير دهشتك وشكوكك أن يأتيك مرتديا قفارا، أما لو كان القاتل امرأة فسيبدو هذا كجزء من أناقة زيها فحسب.
قال الضابط متحديا:
– وماذا لو عثرنا على بصمات؟!
تضاعف شعوري بالإشفاق عليه، وأنا أجيب:
– أتحداكم أن تفعلوا.. لقد تركت القاتلة سلاح الجريمة خلفها، ولم تحاول رفع أكواب الشراب، ولو أنها فعلت، لما بقي القليل من الشراب في كوبها.. انظر إلى الكوبين.
التفت الضابط إلى الكوبين في اهتمام، فتابعت:
– الكوب إلى اليسار، لم يتبق فيه إلا القليل من الشراب، وعليه ستجدون بصمات القتيل نفسه، أما ذلك إلى اليمين، فقد نقص ربعه فحسب، وهذه سمة من سمات نساء الطبقة الراقية.. أن ترشف القليل وببطء.. ولهذا لن تجدوا عليه أي بصمات.
ظهر الانبهار في وضوح على وجه الضابط، وهو يغمغم:
– لقد كنا على حق.
استدرت متجها إلى الأب، وأنا أقول:
– أخبرني عندما تظهر نتائج المعمل الجنائي، وحتى ذلك الحين لا تضع الكثير من الوقت، وابدأ في البحث عن امرأة من الطبقة الراقية، في أوائل الثلاثينيات من عمرها، تربطها بالقتيل علاقة طويلة، ولكنهما على خلاف منذ عام أو عامين.. ابحث، وأبلغني بالنتائج.
والتفت إليه، مضيفا بابتسامة باهتة:
– لأكمل أبحاثي.
غادرت المكان، وكلي ثقة في أنني تركته خلفي مشدوها مبهوتا، وارتسمت على شفتي ابتسامة كبيرة..
مساكين هم رجال الأمن هؤلاء..
درسوا كل شيء عن الجريمة والمجرمين، وطرق البحث والتحري، ونظم جمع الأدلة والقرائن، وكيفية التوصل إلى الحقائق..
ثم لم يستخدموا هذا أبدا..
فقط استخدموا القوة..
وعندما تقتصر كفاءتك على الشعور بالقوة، يندثر معها الفكر السليم والعقل الراجح..
وهذه آفة كل ذوي السلطة..
وهذا ما يجعلني متفوقا عليهم دوما..
لقد تعلمت كيف أسبر أغوار مسرح الجريمة..
عبر الأدلة الصغيرة المتناثرة فيه، أستطيع أن أسبح بخيالي وأرسم صورة كاملة للجريمة، وبكل تفاصيلها..
ألقيت نظرة على ساعة يدي، التي أشارت إلى قرب موعدي مع أستاذي، الذي يشرف على رسالة الدكتوراه، التي أعدها منذ عامين، حول مسرح الجريمة، وزدت من سرعة سيارتي حتى يمكنني الوصول إليه في الموعد، خصوصا أنه شديد الدقة في مثل هذه الأمور..
ثم أنه لا يغفر التأخير عن الموعد..
أبدا..
ومن حسن الحظ أنني نجحت في الوصول في الموعد بالتحديد، واستقبلني أستاذي في حجرة مكتبه، وما إن جلست أمامه حتى قال برصانته المعتادة، والتي تشوبها دوما نبرة صارمة خفية:
– لقد راجعت كل الحالات التي أوردتها في رسالتك، ومن الواضح أنك خبير حقيقي في مجالك.
غمغمت:
– حمدا لله.
مط شفتيه بلا مبرر وراجع أوراق الرسالة في سرعة، وهو يقول:
– رسالتك حللت ثلاثين مسرحا مختلفا للجريمة، ورؤيتك التي أوردتها في تقارير رسمية، اتفقت مع ما أسفرت عنه تحريات المباحث وجهود الشرطة، في تسع وعشرين منها.
غمغمت في ارتياح:
– هذا صحيح.
أغلق الرسالة، وسألني في اهتمام:
– وماذا عن الثلاثين؟!
بدأت أشعر بالقلق، وأنا أسأله:
– ماذا عنها؟
بدا شديد الاهتمام، وهو يسأل:
– كيف فشلت في كشفها؟
ازدردت لعابي في صعوبة، مجيبا:
– لم يكن هناك في مسرح الجريمة، ما يمكن أن يشير إلى هوية مرتكبها.
هز رأسه نفيا، وهو يقول:
– مستحيل!
ثم أردف برصانته الصارمة:
– الجريمة الكاملة أمر مستحيل، ولا يحدث حتى في أفلام السينما.. هناك حتما دليل ما، يتركه القاتل خلفه.. المشكلة فقط تكمن فيمن يراجعون الموقف من بعده.
غمغمت في توتر:
– في تلك الحالة كان الأمر عسيرا بحق، فالقتيل لقي مصرعه في شارع مظلم، وفي ليلة ممطرة، وتم خنقه بسلك رفيع، لم تكن عليه سوى آثار القتيل نفسه، ومياه الأمطار تكفلت بإفساد كل الأدلة من حوله.
وصمت لحظات، ثم أضفت:
– ثم أن مسرح الجريمة كان الشارع بأكمله، وبلا شهود عيان، فكيف يمكن كشف أمر كهذا، بعد ليلة عاصفة ممطرة.
قال في حزم:
– يمكنك أن تستدل بنوع السلك، وكيفية الحصول عليه.
هززت رأسي نفيا:
– كان سلكا عاديا، يمكن الحصول عليه، من أي من محال الأدوات الكهربية.
تراجع في مقعده، ورمقني بنظرة طويلة، قبل أن يقول:
– ربما هي ليست مشكلتك، كخبير في مسرح الجريمة، ولكنها ستكون حتما مشكلة رجال الشرطة والبحث الجنائي، وإدارة الأدلة الجنائية.
عدت أهز رأسي نفيا مرة أخرى، وأقول:
– لم تكن مشكلتهم كذلك.
تساءل في اهتمام:
– ألم يجدوا شيئا؟
هززت رأسي نفيا دون أن أجيب، فتابع:
– كان عليهم أن يبحثوا عن الدوافع.
قلت في خفوت:
– لم تكن هناك أي دوافع.
بدا مستنكرا:
– لا يمكن أن تتم جريمة قتل، بلا دافع واحد على الأقل.
قلت بنفس الخفوت:
– هنا تكمن المشكلة.
سألني في اهتمام:
– أي مشكلة؟!
اعتدلت في مجلسي، مجيبا:
– الرجل كان مجرد موظف بسيط، غير متزوج، وليس له أعداء، يمكن أن يسعوا لقتله، ولا أموال تغري قاتلا بالتخلص منه.
لم يبد مقتنعا، وهو يقول:
– ربما هو قتل بدافع السرقة إذن.
أجبته في حزم:
– لقد تم استبعاد هذا تماما.
أطل التساؤل من عينيه، فتابعت:
– عندما عثروا عليه، كان يحمل حافظة نقوده، وبها ثلاثمائة جنيه، ويرتدي ساعته، وخاتما من الذهب، مما ينفي تماما السرقة كدافع للقتل.
أسعدني أن بدت الحيرة على وجهه، وهو يغمغم:
– لماذا إذن؟!
هززت رأسي مرة أخرى دون جواب، فتنهد في عمق وتساءل:
– لماذا أوردت هذه الحالة في بحثك إذن؟!
أجبت في سرعة:
– للمصداقية.
ولأول مرة، رأيت ابتسامة ترتسم على شفتيه، وهو يغمغم:
– حقا؟!
ثم استعاد صرامته، مضيفا:
– في هذه الحالة، سأقبل بها ضمن أوراق البحث.
ابتسمت في ارتياح، فمال نحوي مكملا:
– ولكن لو أردت رأيي الشخصي، فوجودها وسط بحثك، يفقدك سمة خبير مسرح الجريمة الأسطوري، الذي لا يفشل أبدا.
غمغمت في ثقة:
– أظن أن المصداقية أكثر أهمية يا أستاذي.
ابتسم ابتسامة حقيقية، قائلا:
– يمكنني أن أهنئك على نجاح بحثك مقدما.
انصرفت من مكتبه، وأنا أمتلئ بشعور كبير بالنشوة..
وبالشفقة على أستاذي..
وعلى كل رجال الأمن في مصر..
إنهم يتجاهلون دوما ما يسمى بالجريمة العشوائية..
الجريمة التي يتم فيها القتل.. لمجرد القتل..
وأستاذي المسكين يطالبني برفع هذه الحالة من بحثي، ربما لأنه لا يدرك أنها الدليل الأهم، على كوني خبيرا لا يشق له غبار، حتى ولو وقف الأمن كله على الطرف الآخر..
والدليل أنني قد انتصرت عليهم جميعا..
فالذي ارتكب تلك الجريمة الثلاثين، كان خبيرا بحق..
خبير اختار ضحية عشوائية، لا تربطه بها أي صلة، في ليلة عاصفة ممطرة، وشارع مظلم كبير، ودون أي دافع منطقي..
خبير ارتكب الجريمة الكاملة..
وتضاعف شعوري بالنشوة والظفر، وارتسمت على شفتي ابتسامة انتصار كبيرة..
هذا لأن ذلك الخبير، الذي هزم كل نظم الأمن هو.. أنا.